بتُّ أشبه أمي كثيراً، أستيقظ باكراً، أحضر الطعام -فطور وغداء على الأغلب- وربما أذهب أيضاً لشراء طلبات البيت سريعاً، وأرتب المنزل كذلك، ثم أهرول لإعداد نفسي لأذهب للعمل.
وبالطبع أقوم ببعض التفاصيل اليومية المشابهة لما كانت تفعله أمي، مثل أن أسأل السؤال الذي مَللته وأنا صغيرة "ماذا تريدون على الغداء؟"، أو أن أقوم بحفظ باقي طعام الغداء لتسخينه باليوم التالي، لكن هذه المرة أفعل ذلك بكل رضا وليس ضجر الطفولة، وأحياناً أضطر أن آكله وحدي؛ لأنه "حرام يترمي"، أيضاً ربما آكل من طعام لم يكن يوماً على قائمتي المفضلة، وبدون ذرة تذمر واحدة.
عندما كنت أضايق أمي أو أغضبها كانت تقول لي: "بكرة نشوف هتعملي إيه؟"، ولم أعلم يوماً أن إجابتي المنمقة أو المتعجرفة على هذا السؤال ستتغير في المستقبل وتصبح "البكاء"، ندماً على عدم تقديري لكل ما فعلته، أو على "الحوسة" التي تصيبني حالياً في بعض المواقف.
في تلك الفترة من عمري، كنت أرى أن كل ما تفعله أمي واجب ودَين في رقبتها، بل أحياناً أراها مقصرة في أداء هذا الواجب.
لأنها مثلاً أعدت وجبة غداء لا أحبها أو قدمتها لي باردة، أو وضعت "بصلاً" في طبق السلطة وهي تعلم أني لا أحب البصل، أو لأنها لم تغسل ملابسي قبل نهاية الأسبوع، أو لأنها لم تصنع لي حلوى وكعكة للاحتفال بيوم مولدي هذا العام.
حتى إن تلك الأمور التي كنت أراها قصرت فيها أفعلها اليوم، فأقدم الطعام بارداً أحياناً، وأضع بصلاً في السلطة؛ لأنه مفيد كما كانت تقول دوماً، وأغسل الملابس في نهاية الأسبوع؛ لأنني بالطبع لا أملك الوقت لأغسلها قبل ذلك، وأنسى أساساً تواريخ أعياد ميلاد المقربين مني وليس مجرد نسيان الاحتفال به.
لكن الفرق أنني حالياً أجد أن أسرتي الصغيرة ربما مدينة لي على جميلي هذا، وبالطبع لا أراه تقصيراً، رغم أنها كانت تقوم حرفياً بترك لقمة الطعام الأفضل لي، والتعب لراحتي، كما كانت على أتم استعداد لتمرض بدلاً منّي لئلا أتألم.
كما أني لا أطيق أبداً أن يقول لي زوجي مثلاً إن الطعام ينقصه قليل من الملح، أو إنه لا يفضل تلك الوجبة لهذا اليوم، وأفتح أسطوانة محفوظة بأني أفعل وأفعل وأفعل وإنه لا يقدر ذلك، ولا أمتص كما كانت تفعل أمي بعض المرات رداً على تعليقاتي غير المؤدبة تلك.
لم يقتصر عناء أمي على الأمور المنزلية وإعداد الطعام بالطبع، ولكن كان هذا جزءاً من جميلها الذي أدين لها به بعد تجربتي ذات تجربتها، وهي تحمل مسؤولية الزواج، وإن كان ينقصها أولاد وبنات لكل منهم طلباته المختلفة التي دائماً ما كانت تلبيها بكل الحب، والعمل الذي أجزم أنها أُرهقت منه أضعافاً.
فعندما كنت أمرض، على الرغم من خدمة واهتمام زوجي بي بمتابعة الأدوية وإحضار الطعام ومحاولاته التخفيف عني في تلك الفترات، إلا أن اهتمام أمي كان مختلفاً، فهي تشعرني بصدق مع كل حركة وكلمة أني مهمة لها، وأن كل ألم أتألمه تشعر به ويمزق قلبها، فكثيراً ما بكت لبكائي حينها.
وعلى العكس من مكوثي في الفراش خلال فترات المرض، كانت أمي تتألم وتخدمنا في الآن ذاته، أذكر مراتٍ كثيرة كانت تفارق السرير فقط لتعد لنا الطعام الذي لا تأكل منه في النهاية لشدة إرهاقها وتعبها، رغم أني وإخوتي كبرنا بما فيه الكفاية لنخدم أنفسنا.
فيما لم نقدم لها ما يكفي من الشكر والتقدير على كل هذا الجهد والعناء، الذي ربما انتظرته كما أنتظر أن يعبر زوجي عن إعجابه بتغيير ديكور المنزل أو حلوى جديدة صنعتها له، فيما أظنه غير محبٍ لي إن نسي تقديم هذا الشكر والتقدير.
لم تكن تصرفاتي الحمقاء وأسلوبي المندفع، أو مرضي وألمي وحده ما أبكى أمي، أتذكر جيداً عندما كنت أحزن لسببٍ تافه أو مشاجرة بسيطة مع أصدقائي، وكانت تترجاني لأخبرها ما بي لتخفف عني، كانت تبكي بحرقة لأوقف البكاء والحزن، وبدلاً من أن أترجَّاها أنا لتوقف البكاء على سببي التافه الذي لم تعلمه حتى، كنت أطلب منها تركي وحيدة، كنت غبية غير مُقدرة وممتنة وشاكرة لأفضالها.
والآن، عندما أرى صديقاتي اللاتي بتن أمهات لطفل واثنين وثلاثة، وكم الإرهاق والتعب الذي يكُنَّ فيه، رغم صغر سن أطفالهن الذي يتبعه قلة المسؤوليات نسبياً تجاههم، أتخيلني مكانهن ولا أجدني إلا باكيةً لعظم المسؤولية وصعوبتها.
وأندم على ما كنت أقوله أو مجرد أشعر به، عندما كنت أتشاجر مع أمي وأخبرها بأني لن أربي أولادي كما تربيت، فاتضح أن تربية طفلٍ واحد بذات الشكل الذي كنت أتذمر منه أمر ليس بالسهل مطلقاً، وسيستنفد قوتي وعقلي وجسدي وعمري كله، فما بال أمي التي فعلت ذلك معي ومع أشقائي، كم روحاً ملكت لتفعل بكل الرضا والصبر!
كنت أحياناً أخجل من تذمر أمي منّي في بعض المواقف أمام أقاربي وأصحابي لعدم تقديمي العون لها في البيت، لكني اليوم أخجل من نفسي أني لم أفعل، أخجل من كل موقف أغضبت فيه أمي وخالفت رأيها وأبكيتها، في حين ضحَّت هي بكل وقتها وصحتها لأجلي وإخوتي، وهكذا أرد لها الجميل؟ أغضبها ولا أستمع لنصائحها وأوامرها، ولا أحمل معها الحمل الثقيل بحجة أنه ليس دوري؟!
على عكسي، كانت أمي تترك مشاكل العمل وصعابه خارج بيتنا، ولم أجدها تقول يوماً لا أملك مزاجاً لإعداد الطعام اليوم أو ترتيب المنزل أو الذهاب للتسوق أو الاهتمام بدروسنا.. لمجرد أنها تضايقت من سير العمل اليوم أو مشاكل به، كانت أمي عظيمة بحق بتمكنها من الفصل بين البيت والعمل، وتقديم واجباتها على أكمل وجه في كليهما، حتى وإن أرهقها أحدهم وأتعبها، وكثيراً ما حدث.
حقيقةً، لم أكن أشعر بالأشعار والكلمات التي تكتب عن عظمة الأم، والكلام المحفوظ الذي كتبناه عشرات المرات في موضوعات التعبير مثل: "حملتني في بطنها 9 أشهر، وتحملت عني الآلام وأنا صغير..."، كنت دائماً أرى أنه واجبها، لكني أدركت معناه جيداً عندما بدأت آخذ دورها تدريجياً كزوجة، وأُم، أو امرأة عاملة.
المسؤولية تُربي حرفياً؛ لذا فمن لم يربّه والداه سيقوم الزواج، وإنجاب الأطفال، والعمل بهذا الدور بكل تأكيد، حينها فقط، وقت لن ينفع حنيننا للماضي وندمنا على تذمرنا وربما الأجدر بي أن أسميه عقوقاً، سنعي ما تحمله أهلونا لأجلنا، رغم أن كل ما كتبته ما هو إلا غيض من فيض وكرم وحنان أمي.
أشتاق اليوم ليومٍ من أيام أمي، يوم واحد فقط؛ حيث كنت مرتاحة البال، أستيقظ دون منبهات، وأشاهد التلفاز دون حسابٍ للوقت، وأتناول ما لذ وطاب مما أطلبه، أخرج وأعود وقتما أشاء، ولا أعبأ لأي أحد أو شيء وأي دور ومسؤولية.
لكن رغم ذلك الشوق والحنين، أتمنى أن تسنح لي الفرصة لخدمة أمي ليل نهار؛ لأعوضها عن معاناتها وشقائها لأجلي، عن كل لحظة أبكيتها سواء من تصرفاتي الحمقاء أو حزناً منها عليّ لتألمي أو مرضي أو حزني، عن كل يوم نامت في فراشها متألمةً مرهقة، واستيقظت متناسية هذا الألم الذي يزداد؛ لتخدمنا، أتمنى أن أجثو على ركبتيَّ تحت قدمَيها باكية نادمة شاكرة ممتنة محبة خادمة.