ما أكثر الأوطان العشوائية، أوطان السفنِ الهائمة في وسط البحار، تُسيِّرُها رياحُ الزمن، يقودها قباطنةُ ورثوها عن أحزابهم، أو آبائهم، يُدير دفَّتَها ربابَنَةٌ متملقون جاهلون.
هذه الأوطان تعيش في حالة انعدام الوزن، تُعاني من دوار البحر، لا تستفيدُ من الغذاء، فلا يصيرُ صحةً وعافية، بل يتحول إلى مرضٍ عُضال.
ليس صعبا أن يُحدد الباحثُ علاماتِ هذه الأوطان، فهي تحيا دائما في منطقة انعدام الوزن.
لعلَّ أبرز سمات هذه الأوطان، وجود خللٍ في بُنيتها التاريخية، خللٍ يُسبِّبُ انفصاما بين ماضيها وحاضرها، فهي لا تُراكمُ تجاربها، وتخضعُ للحكمة القائلة:
كُتب على الذين لم يقرأوا التاريخ أن يُعيدوه مراتٍ عديدة!
من سمات الأوطان العشوائية أنها لا تُعِيرُ أرشيفاتها أية أهمية، بل هي تحرق وتُدمر ذاكرتها في كل يومٍ، وتتدفأ عليها، بدون أن تستفيد من تاريخها وتراثها، فكل زعيمٍ جديد يمحو آثارَ غيره، ويُشعل فيه النار ليشعُرَ بالسموِّ والرِّفعة! بصفته الأول والآخر، والظاهر والباطن، والحاكم والقائد، لا أحدَ غيره!
في كل فترة تقوم البلدانُ التي عرَفَتْ طريقَ الحضارة، والرفعة، والتقدم بالإفراجِ عن تراثها ومخزونات وثائقها، لكي توضع أمام الباحثين والدارسين ليتستنبطوا منها العِبر، ويُخضعوها لعمليات المقارنة، ويستحلبوا منها كل عناصرها، ليكتشفوا مواطن الضعف والقوة.
فها هي أمريكا أعلنتْ في شهر يناير 2017 عن الإفراج عن إحدى وثلاثين مليون وثيقة تاريخية وتسجيلية، من سجلات مخابرات السي آي إيه، وثائق كانتْ تُعتبر قبل هذا التاريخ، سرية ممنوعة، هم اليوم يضعونها على مائدة الباحثين، لكي تستمر عملياتُ بناء الوطن، على أُسُسٍ متينة قوية، تتجنَّب عثرات الماضي، وأخطاء الحاضر.
في كل نصف قرن أو أقل تقوم معظم الأوطان المتحضرة بعرض وثائقها في الشمس، أمام الباحثين، والمختصين، إلا نحن، العربَ، نُصرُّ على إبقاء وثائقنا، إن وجدتْ، في خزائن الأقوياء، ينشرون منها ما يدعمُهم ويفضح أعداءهم، لتطيل في أعمارهم، حتى ولو كانت تُنقِص في عُمر الوطن، ما أكثرَ القادةَ والرؤساءَ والأمراءَ والولاة العرب، الذين ارتكبوا أبشع الجرائم في حقِّ تاريخنا، عندما قاموا بتزييف تاريخ الأوطان، ليحشروا أسماءهم في تاريخنا كأبطال خالدين، وهم، في الحقيقة، جبابرةٌ فاسدون!
من أبرز سمات أوطان العشوائية كذلك، غياب أحدث وأخطر الابتكارات العلمية الإعلامية في عصرنا الراهن، وهي استطلاعات الرأي، والإحصاءات العلمية المحكمة، فمعظم صُحف العالم الواعي تُقدِّرُ أهمية الاستطلاعات وقياس الرأي.
مراكزُ الأبحاث والدراسات في معظم الدول المتقدمة تضع قياس الرأي، والإحصاءات في صدر اهتماماتها، وتُنفق الأموال على هذه الدراسات، لأن كل ما يُنفقُ على هذا الابتكار الجديد، يُدِرُّ ربحا صافيا على مشاريع الأوطان، كما أن هذه الدول تستقطب الخبراء والباحثين البارزين من كل دول العالم، وتمنحهم إغراءاتٍ مالية لتتمكن هذه الدول من النجاح والتفوق.
إنَّ أكثر صُحُفِ تلك البلدان تزخر في كل وقتٍ بأحدث استطلاعات الرأي، وأحدث الإحصاءات.
صحيحٌ أن قياسَ الرأي والاستطلاعات في أكثر الدول العشوائية مُغرِّرٌ، لأن مواطني الدول العشوائية، ممن يعيشون تحت وطأة الديكتاتوريات وأنظمة الحكم الأتوقراطية يخافون الإعراب عن رأيهم، فهم يقولون مالا يعتقدون، خوفا من بطش الحكام، وصحيحٌ أن العينات في الأوطان العشوائية صعبةٌ، ومُضلِّلة، غير أن مراكزَ الأبحاث والدراسات، والمعاهد والجامعات الأكاديمية، لم تسعَ لإيجاد حلٍّ لهذه المعضلة، فهي مشغولة، إما باستطلاعات التوجهات السياسية، لنيل رضا الحكام، أو لتسديد مطلوبات وشروط أصحاب الدعم المالي من دول الخطط، التي تودُّ أن تنقل أرشيفات الدول العشوائية إلى أرشيفاتها هي، لتُحدث التأثير المطلوب، وتغزو تلك الدول بلا جيوش، أو أساطيل حربية!