اعتدنا أن نرصد فقط حملات الغضب على شركة الكهرباء، في صفحات التواصل الاجتماعي، وفي مظاهرات الاحتجاج، وفي الندوات والمؤتمرات، وفي لقاءات الأحزاب، ولم نقم برصد آثار الكهرباء على نفوسنا، أي أن هناك سيكلوجيا كهربية أكثر تأثيرا وخطورة من كل تلك الحركات.
من أبرز مظاهر سيكلوجيا الكهرباء، أنها أسهمت في إنعاش نحت الأعذار، أو جعل الكذب شائعا ومستساغا في مجتمعنا، فإذا سئل الشخص عن تقصيره في الرد على هاتفه، أو جرس بابه، أو الحضور في موعده، فالعذر جاهزٌ، لا تيار كهربي.. اعذروني.
سيكلوجيا نحت الأعذار، هي نوعٌ من الكذبِ، لا بمفهوم التعريف الأكاديمي المُحكَم للكذب، بل، لأن نحتَ الأعذار أصبحَ طبقا شعبيا شائعا، يُمارسُه كلُّ الواقعين تحت سطوة، سيارة الرعُب الكهربية، التي تقوم بفصل التيار الكهربي. ولعلَّ أخطرَ ما في ذلك، أن يحظى هذا العُذرُ باستحسان الجميع، وموافقتهم عليه، ثم يتحول إلى ركنٍ رئيس في سيكلوجيا التكوين النفسي لجميع الواقعين تحت نير الاحتلال الكهربي، إن مِن أخطر آثار سيكلوجيا الكذب أنها تُورَّثُ بسرعة البرق إلى الأطفال فيتعلمونها منذ نعومة أظفارهم، ويجبروننا على قبولها كواقعٍ، لا مفرَّ منه، مع العلم أننا نكتوي وحدَنا بنارها!
إذا لم يُنجِز الطالبُ واجباتِه المدرسية، فإنه لن يجدَ عذرا أقوى من انقطاع التيار الكهربي، العذرُ نفسُه صالحٌ أيضا للموظفين الذين يتأخرون عن دوامهم. ويُقصِّرون في تأدية واجباتهم، فهم بالتأكيد لا يجدون عذرا مقبولا أفضلَ من عُذر انقطاع التيار الكهربي!
ومن أخطر أمراض سيكلوجيا الكهرباء، إرغام المجتمع أن يوائم بين حياته، وعمله، ونومه، ويبرمجها جميعها وفق جدول سيارات قطع وتوصيل التيار الكهربي، التي لا موعد لها.
ومن آثارها النفسية المَرَضيَّة أيضا، أن انقطاعها المتواصل يدفع العائلات إلى الشقاق والخصام، فمن يُجبرون على النوم، يتمردون على الآباء، ومن لا ينجزون واجباتهم، ينفسون عن أنفسهم بالشجارات العائلية. فيخرجون في غير أوقات الخروج سعيا وراء الكهرباء، للحصول على تغطيةٍ لشبكة الإنترنت.
ما أكثر المآسي عندما تنقطع الكهرباء في مصعد مكتظ بالشيوخ والأطفال، وما يصيبهم من ذعر، هذا الذّعرُ لا يزول بسهولة، يحتاج إلى برنامجِ إشفاءٍ.
أما عن آثار الكهرباء على الإنفاق الأُسري، والخسائر في مجالات حفظ الأطعمة، في أجهزة التبريد، فهو يقع ضمن منظومة الخسارة المادية، ذات البعد السيكلوجي أيضا، لا تُرصَد للأسف في مراكز الدراسات، أو الجامعات، هذه الخسائر ليست مادية فقط، بل إنها تُصيب صحتَنا العامة بالضرر، عندما نُضطر لاستهلاك بضائع فاسدة، بسبب انقطاع التيار الكهربي، ولا سيما المجمدات من اللحوم والأطعمة.
لذا، فإن هذا السلاحَ الخطيرَ ، جرى تطويره، عبر جرعاتٍ عديدة، بدأت بإضاءة المصابيح، وانتهت اليوم بإدمانٍ خطير، استولى علينا، وعزلنا عن محيطنا الخارجي، وفرض علينا منع التجول في الصيف لنحصل على الهواء الكهربي البارد، وفي الشتاء، نلزم بيوتنا لنحصل على الدفء الكهربي الساخن، إلى أن تحولنا بالكامل، من كائنات بيئية بشرية طبيعية، إلى معلبات كهربية، فضائية، كمبيوترية، تحتاج إلى منظومات عديدة من العلاج والدواء.
سيكلوجيا الكهرباء ستقضي بعد زمنٍ وجيز على كلِّ بقايا الإنسانية في الإنسان، تُزيلُ مجموعة القيم المتوارثَة، في النفوس، كالصدق، والأمانة، والإخلاص، والوفاء، إلى أن تصل إلى إنهاء الإحساس بالوطنية، أي الرغبة في الهجرة والاغتراب من الأوطان، ليس بسبب ضائقة الفقر، والقهر فقط، بل بسبب مفعول وباء الكهرباء!
أخيرا، إن احتكار الكهرباء في عالم اليوم، يدخل في إطار الرهان على الثراء، والسيادة، والسيطرة، بلا جيوشٍ، أو طائرات، فقد أصبحت أخطرَ سلاحٍ.