لم يكن من السهل على والديّ تقبل فكرة وجود إثنين من أبنائهما يعتمدان على اليد اليسرى في الأكل والشرب والكتابة وفي جميع أنشطتهما، ومما زاد الأمر صعوبة عليهما، هو دروس الوعظ الديني التي تلقى على مسامعهما يوميا من قبل جديّ، اللذين لا يكفان عن تأنيب والدي ودفعه إلى إجبار شقيقيّ الصغيرين على عدم استعمال اليد اليسرى، وإلزامهما بتناول الطعام والشراب باليد اليمنى.
ونزولا تحت رغبة والديه اللذين يصران على أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله، اعتبر والدي أن استعمال شقيقيّ اليد اليسرى من المحرمات الكبرى على حد وصف جديّ، اللذين كانا يضغطان باستمرار على والدي لدفعه إلى استعمال أسلوب التدريب والتأديب بالضرب إن لزم الأمر، لجعل شقيقيّ يتعودان على استعمال اليد اليمنى.
ولم يكن الأمر هينا على شقيقتي الكبرى التي لم تتجاوز وقتها التسع سنوات، ولا على شقيقي الأصغر الذي كان يبلغ من العمر خمس سنوات، فلطالما حاولا الامتثال لأمر والدي وقلدانا في وضع الملعقة في يديهما اليمنى بدلا من اليسرى، إلا أن القدر القليل من الطعام الذي كان يتمكنان من حمله في ملعقتيهما ينتهي به الأمر إلى التبعثر على وجهيهما أو على الطاولة في غالب الأحيان ولا يصل إلى فميهما، فكنت أنا وبقية أخوتي نضحك منهما ونسخر كثيرا ونتباهى بجدارتنا في استخدامنا اليد اليمنى، فينفجران بالبكاء لأنهما يعجزان عن الأكل بسلاسة مثلنا باليد اليمنى، فتشفق عليهما أمي وتحملهما معها إلى المطبخ حتى تجنبهما عقاب والدي ودروس جديّ في الإرشاد والوعظ التي لا نفهم منها شيئا.
وفي الحقيقة لقد واجه شقيقاي صعوبات كبرى في تقبل المدرسين اعتمادهما في الكتابة على اليد اليسرى بدلا من اليمنى، فلطالما اشتكيا من تعرضهما للعقاب بسبب ذلك، وعوملا على أنهما ارتكبا جرما شنيعا، أو ربما كان ينظر إليهما على أنهما منحرفان عن الصراط المستقيم، ولكن رغم كل العقوبات التي تعرضا لها، إلا أنهما لم يستطيعا إلى يومنا هذا تغيير ما ليست لديهما قدرة على تغييره، ومن حسن الحظ أن ما أنزل بهما من ضرب وشتم في صغرهما لم يحل دون تفوقهما في الدراسة أو يشكل لهما عقدة نفسية مستعصية العلاج، ويكفي أن شقيقي الأصغر الذي يستخدم يده اليسرى بالكتابة، أكمل دراسة الهندسة الكهربائية بتفوق وحصل على درجة الماجستير وهو يجيد التحدث والكتابة بأربع لغات.
للأسف، المعتقدات السلبية المرتبطة على نحو غريب بالشخص الأعسر ما تزال مترسبة في العقول إلى العصر الحالي، فالكثير من الأسر في المجتمعات العربية والإسلامية تحديدا، لا تتقبل فكرة وجود طفل أعسر بين أفرادها، فتدربه بشتى الطرق على استعمال يده اليمنى وأحيانا تجبره على ذلك، ولكنها في غالب الأحيان تفشل في تلقينه كيفية الانحياز للجانب الأيمن، لأن ذلك خارجا عن إرادته.
وعلى الرغم من أن استخدام اليد اليمنى ربما كان نتاجا عرضيا للطريقة التي تشكلت بها عقول البشر كما فسر ذلك العلماء، فسلطة العقل هي المحرك الأساسي للأداء الإنساني. ويعتقد بعض العلماء أن تفضيل استخدام اليد اليسرى يرتبط في الأساس ببداية تكوين الخلايا الدماغية لدى الجنين داخل الرحم، وهذا قد يفسر أسباب اعتماد 12 بالمئة من إجمالي السكان حول العالم على اليد اليسرى، وتميزهم في أكثر الأحيان.
ولكن من الصعب إقناع بعض الآباء في مجتمعاتنا العربية بهذه النظرية بسبب المعتقدات البالية التي مازالت راسخة لديهم. الأعسر شخص طبيعي، ولا يختلف عن غيره في الذكاء والقدرات، وقد برهنت العديد من الأبحاث النفسية على أن إجبار الأطفال العسر على استخدام اليد اليمنى، قد يخلق لديهم مشاكل في التواصل الاجتماعي، ويضعف قدرتهم على القراءة، ويفقدهم الثقة في انفسهم.