كثيرًا ما نقرأ عن جوائز تعنى بـ"الإبداع الأدبي"، ونشعر بالسعادة حين تطالعنا تلك العناوين التي تسعى للحث على القراءة، والتميز لرفد الساحات الحياتية التي تتسارع في سباقاتها مع التكنولوجيا حتى تحول الإنسان إلى مخلوق آلي يفقد روحانياته شيئا، فشيئا دون أن يستشعر الخطر الذي اكتنفه، إلا إن تعمّق في مرآته، فبحث في أسباب العنف العصبي الذي ينوء به، وفي تحوّله رويدا رويدا عن الحياة الاجتماعية إلى إنسان انعزالي يحتضن الآلة، ويكتفي بها عن البشر حوله، وإن تذكر قريبا، أو صديقا جامله بكلمات بسيطة لا تتعدى حروفـًا منسقة عبر رسائل هاتفية آلية هي الأخرى!
تسعدنا تلك المسابقات في صفحات مجلات كبيرة تعنى بالأدب العربي، وتنشط لإحيائه، وتشجيع الشباب على التمسك بتراثهم، والإحساس بأصالتهم، ولكن ما يلفت النظر إليه، هو هوة كبيرة يكرسها المسؤولون عن تلك المسابقات حين يلجؤون إلى وضع شرط عمري يخصص الإبداع بسن الشباب، وتحديده بسن معينة لا تتعدى الأربعين ، وكأنهم بذلك يقسمون فصول الحياة، ويحكمون سلفًا على خريفها، وشتائها بالفناء، جاهدين لجعل الحياة ربيعًا دائمًا ناسين بذلك أنّ الخريف يشكل الطريق إلى الشتاء، وأنّ الشتاء عطاء الأرض لتزهر ربيعـًا وتختمر صيفـًا، وناسين أنّ- الله عز وجل- لو شاء لخلق الكون مسارًا مستقيمًا، بشكل واحد، ولون ثابت، ولو سأل هؤلاء أنفسهم متعمقين قليلا لوجدوا أن الكائن البشري لو قدرت له الحياة في نمط واحد، واستفاق على شكل مماثل له، وأشجار ذات طول، ومنبت واحد، وجيران يتكلمون لغة واحدة ويتنفسون أهواء متماثلة لأصيب بالصعقة، وربما لفظ الروح..!
الرتابة لا تخلق حياة! ..انظرْ إلى الله في بديع خلقه حين تلقّحُ شجرة برتقال، مثلا بنوع آخر كيف تتفتـّقُ الشجرة عن جديد يشدك إليه في طعمه ولونه.. انظر إلى الحياة في كل يوم تتجدد، فيتجاور العاري والمخضر، فيزيد جلاء الأخضر ونضرته.. انظرْ إلى التنوع في كون الخالق كم يزيدك انتشاء وعطاء وإبداعا..
إذا، فما الدافع لتهميش من تعدى الأربعين؟ أهي دعوة منهم لأن ينسقَ نفسَه في عداد المنتظرين فناءَهم؟ فلو كان ذلك لما دعانا الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى نظل نعمل حتى وإن قامت الساعة! وهو العظيم الذي كلف بالنبوة في الأربعين، وكأنه عز وجل يعرفنا مرحلة النضج، واكتمال أهلية الإنسان في أحداث ستكون أشد تأثيرا في مجريات الكون، كما أننا لو تصفحنا سير المبدعين لرأينا منهم من بدأ حياته الفكرية والإبداعية في سن تعدت الستين، وأمثالهم كثر، كالأديب البرازيلي:" باولو كويللو"، و"الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا" الذي حصل على جائزة نوبل 2010 وهو في الرابعة والستين، و"سلمى لاغرلوف" كاتبة سويدية ولدت في 20 نوفمبر 1858 وحصلت على جائزة نوبل في الأدب سنة 1909،يضاف إليهم العديد من البشر ممن تآكلتهم الحياة ساعين لاستقرار معيشي، أو نفسي، فأنساهم ذلك أنفسهم، ولكنهم يكونون في حالة دائمة من انتظار مشوق للحظة يفسحون فيها اختمار ما في نفوسهم من إبداع وفكر..
إنني آمل ألا يُـقزّم المرءُ في سني حياته، وألا يدفع دفعًا ليقطف بنفسه صفر أوراقه في شجرة عمره، التي تترمد يوما إثر يوم ..
إنها دعوة أن نحتضن إنسانيتنا في كل فصولها، فنكون بذلك ساهمنا في بعث الروح في ذاك المجتمع الذي تهشمه الآلة، وتراكض الحياة ، ولا بأس في أن نفرد مسابقات لأعمار معينة، ولمن لم يكن لهم من قبل حضور معروف في الساحات الأدبية، ولننتظر حينذاك سيول الإبداع الإنساني التي ستهل علينا!