منذ قرابة الخمس سنوات، شاهدت في أسواق المدينة العتيقة بتونس رضيعة مستلقية بداخل عربتها الصغيرة التي يجرها والداها، وقد ألبساها حجابا وجلبابا. ومنذ ثلاث سنوات أو أقلّ شدّني مشهد طفلة في الخامسة من عمرها أو أقل تمسح الأرض بطرف عباءتها السوداء المتدلّية، وحجابها يخفي ذراعيها وشطر جسمها الصغير.
ظننت أنها مجرد موجة تمرّد على سنوات من المنع للحجاب في تونس، وأنها ستكون مؤقتة، لكنني كنت في كل يوم أصطدم بمشهد فتيات قاصرات محجّبات، لم يكتمل بعد نموّها، زهرات يانعة تشتهي الركض والقفز بلباس يسهّل حركتها.
لقد صار مشهد فتيات السّت والسبع سنوات وحتى الأربع وهن يغطّين رؤوسهن بالحجاب مشهدا متاحا للنظر بشكل يومي.
وفي هذا الإطار، تعود بي الذاكرة إلى سنة 2013 وبالتحديد فترة زيارة الداعية الكويتي نبيل العوضي لتونس، والصور التي ظهرت له مع فتيات لم يتعدّين الست أو السبع سنوات كلهن ترتدين الجلباب والحجاب والداعية يعانقهن بكل فخر. قوبلت زيارة الداعية بموجة رفض كبيرة بسبب مشروع "تحجيب القاصرات" الذي يدعو إليه، والذي قالت بعض وسائل الإعلام أنه جاء لنشره في تونس ممّا اعتبروه "تدخّلا خطيرا في خصوصيات المجتمع".
وفي الثالث عشر من أوت/آب لسنة 2015، وبمناسبة عيد المرأة، تناول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أيضا موضوع حجاب الأطفال في خطابه مصرّحا بأنه صار أمرا منتشرا وأنه أمر غير مقبول في المؤسسات التربوية، بالنسبة إلى فتاة سنّها أربع سنوات، وفي المدارس الابتدائية حسب قوله في ذلك الخطاب: "يُنْصْبوا على راسها وَحْدَهْ كحْلَى (يضعون على رأسها شيئا أسود)" وأنّ هذا لا سبيل إليه، مضيفا "ويْزيدوا يعلّموها تغنّي "قيدُكم في نحركم""، معلنا أن هذا أمر يستحيل القبول به. ثم أردف قائلا: "أتوجه للحكومة وأطلب منها تطبيق القانون لأن هذا ضد قانون الطفل."
هذا الخطاب فتح الباب أمام تجاذبات سياسية وجدل مجتمعي واسع، ذلك أن عددا من أعضاء حركة النهضة ساعتها اتهم الرئيس بأنه يهمل المشاكل الحقيقية للبلاد على حساب مواضيع عرضيّة. وجاء رد الناطق الرسمي لوزارة التربية في تلك الفترة مختار الخلفاوي على خطاب الرئيس التونسي، في تصريح لقناة فرنسا 24 بأن الحجاب حرية شخصية وأن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي تحدث خلال ذلك الاحتفال بعيد المرأة عن القاصرات ذوات الأربع سنوات وعن المدارس الخاصة فقط.
نحن اليوم في سنة 2017، ومازال المشهد هو نفسه لم يتغيّر، أي أنه لم يكن عرضيّا ولا مؤقتا بسبب المنع القديم للحجاب في تونس مع الحكومات التي سبقت "الثورة"، وما آل إليه من حالة انفجار للحريات في جميع المجالات. بل لقد صار مشهدا متواترا، اعتبره الكثير يدخل ضمن حرية اللباس وحرية الولياء في طرائق تربية الأبناء.
المشهد قانونيا في تونس، وحسب ما صرّح به المحامي الأستاذ حازم الكسوري لوكالة أخبار المرأة، عند سؤاله عن علاقة تحجيب القاصرات بقانون حماية الطفولة في تونس، أن المشرّع لم يتطرّق صلب مجلة حماية الطفل إلى مسألة خمار الأطفال بل أكثر من ذلك أن الخمار لم يضبطه القانون، إنما هناك منشور يتيم ومهجور عدد 108/81 بتاريخ 18 سبتمبر/أيلول 1981 الصادر عن وزير التربية المتعلق بمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات العمومية، وهو منشور أثار ضجة كبيرة قانونية وتطبيقية، على شاكلة ما جرى من قبل في فرنسا من نقاش مجتمعي بخصوص حجاب الأطفال في المدارس الفرنسية، وهذا مردّه حسب الأستاذ حازم، التجاذبات السياسية خصوصا وأن مجلة حماية الطفل لم تضبط ذلك بنص أو قانون. إن المسألة لم تطرح بعد بل هناك فراغ تشريعي بخصوص حجاب الأطفال.
ويضيف الأستاذ حازم القصوري: "أما مسألة فرض الحجاب بشكل قسري على الأطفال، فلقد أوجد المشرّع التونسي آليّات حماية الطفل تمرّ عبر الإشعار الموجه لمندوب حماية الطفولة الذي بدوره يقوم بالتقصّي حول الموضوع من خلال الأبحاث والمعطيات التي يتحصل عليها، ليقف مندوب حماية الطفولة على مدى جديّة التهديد ويقرّر التعهّد بالحالة من عدمه على معنى حالات التهديد المنصوص عليها بالفصل 20 من مجلة حماية الطفل، ويحدّد الإجراء المناسب في شأنه إذا ثبت له وجود ما يهدّد فعلا سلامته البدنية أو المعنوية. ويحدّد الإجراء المناسب حسب خطورة الحالة التي يعيشها الطفل، ويقترح تبعا لذلك التدابير الملائمة ذات الصبغة الاتفاقية أو يقرّر رفع الأمر إلى قاضي الأسرة."
ويكمل إجابته قائلا: "أرى أن هذا الفراغ يفرض على المشرّع التونسي اليوم أكثر من أي وقت مضى تدعيم حقوق الطفل في تونس بعد انتشار ظاهرة فرض حجاب الأطفال قسرا تماهيا مع الإعلان العالمي لحقوق الطفل المؤرخ في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1959، واتفاقية حقوق الطفل سنة 1989، خاصة والبلاد تخوض حربها ضد التطرف والغلوّ والإرهاب."
ولكن، كيف يمكن لمندوب حماية الطفولة أن يتدخّل في قرارات الأولياء، إن كان الطفل نفسه غير قادر على التعبير عن رفضه او الإدلاء برأيه، باعتبار أن ما يفعله ولي أمره به هو المعتاد وليس الشاذّ، بحكم التعوّد والبيئة التي يعيش فيها.
أما المشهد شرعيّا، فكان واضحا مع تصريحات مفتي الجمهورية التونسية لسنة 2015 حمدة سعيّد في صحيفة المغرب بخصوص موضوع حجاب الأطفال، وذلك في إطار تعليقه على خطاب الرئيس، وكان التصريح كما يلي: "أولا إن حجاب القاصرات أمر خارج عن السياق الشرعي وهو من أفعال البشر، وهذا ما بيّناه في أكثر من مناسبة ونعيده بأن إلباس القاصرات الحجاب غير واجب شرعا.
ثانيا لا نعتبر أن طرح الموضوع فيه إثارة لسؤال الهوية التي هي أوسع من هذه الجزئية التي لا أصل لها في الدين، فالهوية تحددها الشعوب في سياقاتها التاريخية وتراكماتها الثقافية والحياتية وانتمائها إلى الأرض واللغة والدين. وهذه الإجابة تنسحب على موقع الإسلام من الشأن العام لأن الإسلام أعظم من أن تختزله هذه الجزئيات فهو عقيدة ومنهج لبناء الإنسان والأوطان."
وهذا يعني أن حجاب القاصرات ليس فرضا وغير ملزم في الدين الإسلامي، وأن ما يفعله الأولياء ببناتهن يدخل ضمن منظومة فكرية وعقلية خاصة، لا عقائدية بالدرجة الأولى.
وأستند أيضا إلى تصريح للشاعرة التونسية عائشة العلاقي لوكالة أخبار المرأة حول هذا الموضوع، على اعتبارها امرأة تونسية مثقفة، إذ قالت: " أنا أراه حربا نفسية عنيفة يفرضها الذين يغالون فى الدين وقد تؤدي إلى شلّ عقل الطفلة وتدنيس جسدها وكرهها لذاتها وإذعانها للذكر دون بحث أو نقاش .وهذا في حد ذاته نوع من أنواع الاستعباد البغيض، فتغطية جميع الجسد والرأس للطفلة الصغيرة هو نوع من أنواع اغتيال الحرية والهوية البشرية وتجسيدا رمزيا للخضوع المطلق للآخر.
كما أنه رد فعل بائس من ذكور يريدون وأد بنت منذ صغرها لأن التبرج يجلب العار حسب اعتقادهم وبه تعم البلوى لأنه من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة حسب رأيهم، ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد حسب إدراكهم، فتكون بذلك البنت الصغرى المحجبة ضحية قراءات وتحاليل رجال سطّروا حياتها حسب أهوائهم ولم يحترموا مشاعرها ولا رغباتها بل طمسوا نبض الحرية بحياتها.
ورغم ما يقوله دعاة التحجب من أنه من الضروري تعويد الفتاة القاصر على ارتداء الحجاب تمهيدا لإلزامها به فيما بعد كي لا تجد فيه صعوبة في عمر التكليف، إلا أن هذا الصنيع يعتبر عنفا مسلطا على البراءة و ترهيب نفسيتها لدرجة الإخلال بمداركها فتصبح منذ الصغر عديمة الثقة بالآخر وخاصة الذكر، وباترة لرغباتها وفاقدة لإرادتها مما ينجم عنه اضطرابات نفسية كبيرة تودي إلى الاكتئاب أو إلى الانتحار.
إن فرض الحجاب على الطفلة الصغيرة هو نوع من التجني على عمرها وعلى نموها الطبيعي فقولبة تفكيرها وأحلامها ومستقبلها عملية إجرامية فى حقها كطفلة وكإنسانة وهو نوع من أنواع تشويه النشأ وعرقلة مساره الطبيعي وهو أبشع انواع الظلم والتسلط على عفويتها وعفتها وبراءتها، إذ أن تشبيه الفتاة بأنها عورة وشهوة والذكر ذئب متربص بها ينجر عنه تكوين العقد داخل كيانها الضعيف وجعلها ساذجة وعقيمة التفكير المعرفة."
هذه الطفولة التي تعدّ أهمّ مرحلة عمريّة، والتي لكل الأحداث الحاصلة خلالها تداعيات على حياة الفرد في مراحل عمره التالية، هي الفترة التي يجب علميا الاهتمام فيها بالفرد لخلق شخص سويّ نفسيا وجسديا قدر المستطاع. ولقد أكّد عدد كبير من خبراء الطفولة أن إلباس الفتيات القاصرات للحجاب هو نوع من القمع النفسي الذي يخلق لدى الطفلة فكرة أنها عورة وجسد فقط، واعتبار نفسها مجرد أداة جنسية وبالتالي الخوف من الجنس الآخر والاحتراز عند التعامل معه. كما اعتبر البعض الآخر أن ذلك يحمّل الطفل ما لا طاقة به من أفكار سابقة لأوانها، وأنه يصبح مجرّد آلة لتنفيذ معتقدات الآباء دون الأخذ بعين الاعتبار أن مرحلة الطفولة تعدّ ركيزة أساسية لتعليم الطفل وتهذيبه وتدريبه على التفكير والتساؤل لا على قولبته.
في نهاية المطاف، ليس موضوع حجاب القاصرات سوى جزء صغير جدا من موضوع أكبر وهو كيفية تنشئة الطفل في بيئة سليمة خالية من التطرّف، بيئة تجعله منفتحا على العالم لا منغلقا في بوتقة واحدة تمنعه من التفكير وتقمع ملكة البحث والاكتشاف لديه، ومن ثمّ تدريبه على الاختيار ومن ثمّ على حسن الاختيار وانتقاء ما هو صالح به في المستقبل. ولعلّي أختم بسؤال قد نطرحه على احد هؤلاء الأولياء: "من يضمن لك صلاح أخلاق ابنتك في المستقبل إن ألبستها الحجاب منذ الطفولة على اعتبار أن ذلك يدخل في باب التعوّد لتتعوّد على الحفاظ على عورتها؟"