وحدها المواقف تصقل شخصية الإنسان، فيتعلم من إنجازاته الناجحة، والفاشلة على حد سواء، فحتى الإخفاقات تُكسبنا معرفة أكبر في التعامل مستقبلاً مع مواقف مماثلة. وهذا الكلام ليس نظرياً حتماً، عشته بشقيه الإيجابي والسلبي، والجميل أنني أكتشف كل مرة جوانب شخصية "المرأة القوية" التي تنام بداخلي، وتستفيق بشراسة لكي تُواجه التحديات التي تقف أمامها.
"قصتي مع الصفعة"
حينها كان عمري لا يتجاوز الثلاثة عشرة، ارتدت إحدى صديقاتي المقربات الحجاب، لكن لم يمنعها ذلك من ممارسة يومياتها في المدرسة الإعدادية المختلطة، حيث كانت تُشارك معنا في حصة الرياضة أسبوعياً، ونلعب معاً مع زملائنا كرة القدم، وكرة اليد، والسلة، وكرة الطائرة، حتى إنها كانت معنا في الفرقة الموسيقية للمدرسة، تتدرب على الغناء وتعزف معنا على الناي.
وفِي يوم من الأيام، وبينما هي جالسة بجواري، حاول أحد الزملاء في الصف أن ينزع حجابها بطريقة عنيفة، كنتُ منهمِكة في الكتابة بدفتري، وفوجئت بتصرفه، فلم أَجِد نفسي الا واقفة، وأصفعه في وجهه، وجلست مجدداً بكل هدوء، إلى أن دخلت مُدرّسة اللغة الفرنسية، وحكى لها زملائي ما حدث، وجاءت لتستفسر عن الموضوع مني ومن صديقتي..
شرحنا لها الموقف، وقالت إنه أخطأ، لكن لم يكن عليّ أن أصفعه، ومع ذلك رافقتنا المُدرّسة أنا وصديقتي إلى الإدارة، لتقديم شكوى ضده، وإتمام الإجراءات، ووعدنا المدير بأن يتخذ الإجراء المُناسب في حق ذلك الزميل، الذي كان معروفاً بسيرته السيئة، وخضوعه للعديد من المجالس التأديبية، وانتهى به الأمر مطروداً من المدرسة بعد أسابيع من اعتدائه على صديقتي!
لا أذكر أنني اشتكيت لوالديّ أو تحدثت عمّا حصل معي؛ لأنني أحسست بأنني أخذت حق صديقتي بيدي، وإن كنت مناهضةً للعنف إلا أن تلك "الصفعة" جعلتني اقتصصت للظلم الذي تعرضت صديقتي له، وكانت "الصفعة" كافية لتمتصّ غضبنا الكبير من ذلك الموقف السيئ الذي تعَرضتْ له! وكنتُ في نظر الجميع "الفتاة الجريئة التي تصدّت لفتى". أما أنا، فأحسست بالإنجاز؛ لأن يدي وصلت إلى وجهه رغم طوله الفارع، فيما بقيت صديقتي ممتنة لذلك الموقف طويلاً!
مرّت السنوات.. وخضت الكثير من التجارب في بلدي وفِي غربتي المتعددة، ومررت بالكثير من المواقف، لكن لم تستحق مني تلك المحطات الكثير من التفكير، كانت دروساً آنيةً أستقيها وأقلّب الصفحة وأستمر.. إلا أن بعضها بقي عالقاً تماماً كتلك "الصفعة" التي انتفضتُ بها إنصافاً لصديقتي..
"قصتي مع الاستقالة"
موقف آخر بقي عالقاً في ذهني وكان نقطة تحوّل في حياتي، وكان ذلك عند التحاقي بإحدى القنوات العربية؛ ولأنني دخلت وعملت في قنوات أكبر وأضخم منها اسماً ومهنية لم أنبهر بالأضواء فيها، وركزت على عملي فقط، وكنت حريصة على المحتوى التليفزيوني الذي أقدمه للمشاهد، أخباراً أو برامج.
كنت باختصار "أنا" أمام الكاميرا وخلفها، قريبة من الناس وهمومهم، لا أسخر من قضاياهم ولا أتاجر بها وأروّج لنفسي من خلالها؛ لأني مؤمنة برسالة "الإنسان" التي أحملها في كل ظهور تليفزيوني لي. بالمقابل، كانت هناك فئة أخرى تركز على الشكل، والقشور، والابتسامات الهوليوودية التي توزعها وهي تقدم أخبار الموت والدمار، والانفتاح الذي لا يكون انفتاحاً بلا "علاقات" و"تملق" و"نفاق اجتماعي"!
هذه الفئة كانت الأكثر تقديراً، ليس لمجهودها المهني، والقيمة المُضافة على الشاشة بالمضمون الثري الذي يستفيد منه المشاهد، أو حتى المستوى الأكاديمي، أو الفكري لهم؛ بل كانت أكثر تقديراً بنجاحها في التصنّع الذي يمنحها مكانةً اجتماعيةً ومردوداً مادياً وفيراً!
ورغم كل هذه التحديات، واصلت باجتهادي المعتاد عملي؛ لأني أحبّ ما أقدّم، ما اعتبروه ضعفاً أو سذاجة، تجاوزت عن الكثير من المواقف التي لا تستدعي أن أستوقف عندها الآن؛ لأنها أصبحت جزءاً من الماضي، وتجاوزتها في حينها بلحظة ضعف وبكاء، وبلحظة قوة وتحدٍّ بأن أمسح دموعي وأنزل على الهواء مباشرة، متناسية التجاوزات الإدارية.
لكن الموقف الذي علق بذهني، كان تعرضي لتحرشٍ لفظي، من قِبل أحد الزملاء، وتقديمي شكوى لدى الإدارة، واستخفافها بالموقف، الذي اعتبرته مسؤولة الموارد البشرية حينها (وهي امرأة!) اعتبرته "ليس تحرّشاً لفظياً"، فيما تجاهل المدير الموقف رغم تلقيه تقريراً مفصلاً عما حدث..!
تعامل الإدارة مع موقف مماثل بهذا الشكل، جعلني أعيد التفكير ألف مرة في بقائي بمكان لا يحترم موظفيه (رجالاً ونساء)، نَفَسِي القصير جداً مع الفشل والجهل، أصبح أقصر أكثر، لما صدر في حقي، ما وصفوه بـ"التكليف الإداري" لمهام أخرى، بعيداً عن الأخبار، مكافأة لي على أخلاقي في التعامل مع ما اعتبرته "تحرشاً لفظياً"!
لكن من الأشياء التي أعتبرها ميزة ذهبية في شخصيتي، هي قدرتي على حسم المواقف، وهكذا كانت: "الاستقالة".. التي اعتبرتها تحرراً، من قيود النفاق والبيئة غير الصحية للإبداع في العمل، "الاستقالة" التي أكسبتني احترامي لنفسي، ومكانتي بنظري أنا قبل أن تكون بنظر الغير.. "الاستقالة"، التي حفظت ماء وجهي من الرضوخ للتقييم السطحي وغير المهني!
المغزى من كتابتي هاتين القصتين، في مثل هذا اليوم الذي يحتفي فيه العالم بالنساء، أنني أردت أن أعرض التحديات الكبيرة التي نتعرض لها في بيئاتنا (البيت، المدرسة، الجامعة، العمل، الشارع..) لمجرد أنها من جنس آخر، تُعامل بمقاييس خاصة ترتكز على شكلها ومظهرها، وتُطالبها بأن تكون دميةً، تتكلم وتتحرك وفقاً لعقلياتهم الأكثر تشدّداً أو الأكثر انفتاحاً!
تعلمت الكثير من قصتي "الصفعة" و"الاستقالة".. تعلمت كيف أنال حقي بيدي، وكيف أكسب احترامي لنفسي قبل أن أطلب من الغير احترامي، وكيف لا أقبل الظلم وعدم الإنصاف.. قصص علمتني وكان بينها قصص قصيرة أخرى، وحتماً ستكون مثلها قصص أخرى تُعلمنا متى نكون صبورين ومتى نكون صارمين بقرارات حاسمة.
تعلمنا أن المبادئ لا تتجزأ من أجل منصب أو شهرة، حتى وإن اعتبرتها الأغلبية العظمى من مجتمعنا مبادئ "مثالية طوباوية" لا مكان لها في واقع سطحي، مادي!
بين "الصفعة والاستقالة"، وُلدت امرأة أخرى تشبهني في قوتها التي تستحضرها عند الحاجة، في قدرتها على الاستمرار رغم التحديات الكبيرة في زمنٍ يُكرّس الرداءة ويتخذ من السطحية شعاراً..
كلّ يوم وأنتنّ قويات صامدات.. لن تكنّ بخير إذا لم تكنّ كذلك!