بعد سنة ونصف من ملاصقة الواقع والشارع والبشر الذين انتشروا وسكنوا أستراليا أقع على حقيقة مرة جدا. الحقيقة التي لن تعجب الكثيرين ممن يقرأونها، ولا أشك بأن ثائرتهم ستشب عليّ بالذات باعتبار أني أنتمي إليهم، وعليّ أن أماشيهم، أو أن أسكت على الأقل ولا أكتب مثل هذا الكلام.
الموضوع باختصار يتعلق بالمسلمين بالذات. نعم، هم المسلمون، أو من ينتمون إلى هذا الدين الذي أعلنُ منذ بداية الأمر أنه منهم براء، هم الذين أقصدهم بما أروي من المكاشفات هنا، والتي للأسف لا أستطيع أن أحصيها في مكان ضيق كهذا.
يستوقفني بعمق حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي يلخّص المنافق في سمات ثلاث في قوله: " آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". هذه الصفات الثلاث التي تفتح أكثر من عالم يتداخل، ليرسّخ في النهاية لإنسان نقي صالح مفترض به أن يكون الأنموذج للمسلم الذي أنّى يوُجد يكنْ هو ذاته، باختلاف البقعة وباختلاف من يتعامل ومن يعيش بينهم، سواء انتموا إلى دينه أم لم ينتموا، وهذا هو المدخل لما يفيض بي، ويجعلني أدلي بما سأدلي رغم إحجامي أكثر من مرة عن ذلك، في محاولات خجلة لتغطية عين الشمس بغربال أرى ثقوبه أمامي تزداد اتساعا، لتُشكّل الشمسَ الساطعة نفسها.
من المعهود أنه عندما يحظى البشر بالعيش في بلد حر يثمّن الحرية، ويحترم كيان الإنسان وخصوصياته، يصبح الفضاء أمامهم مفتوحا وميسّرًا ليسكبوا ما فيهم من الرغبة في الحياة الحقيقية التي تليق بهم، بعيدا عن سطوة الديكتاتوريات وتكميمها الأفواه والأنفاس في حرصها الأزليّ على تحويل الإنسان إلى عبد مطيع معميّ العين مبكوم الفم، مصموم السمع، كما واقع الحال في نظرية القرود الثلاثة التي تحضرني في هذه اللحظات شاهدًا ساخرًا على ما أودّ قوله.
وكنت أحسب الأمر سيكون مختلفا تماما، وأني هنا في أستراليا قارة الحريات سألتقي بالمسلم الذي هو الأنموذج المرتجى ليكون جواز السفر إلى العالم، وهذا للأسف ما لم يحدث حتى اليوم معي، والأمر على ما يبدو سيزداد سوءا حين سيطول بي المقام.
وحتى لا تشبّ ثائرة البعض ممن يجدون أنفسهم مغايرين فيما أذكر، سأنفي أن يكون الجميع ضمن ما أصف، وإن كنت حقا ألفظ هذا الكلام على استحياء أيضا.
في بلاد الحريات أستراليا، رأيت القيد والقضبان أنّى اتجهت، قيود وقضبان ينصبها الإنسان للإنسان، بعد أن كانت الدول التي حُظّوا بالتّفلّتِ منها هي التي تقيم القيود وتنشئ السجون وتأسر الحريات، ومن المتفق عليه أن مناخات الخلق والابتكار والإبداع تحتاج إلى اتساع الأجواء، الذي يتواجد هنا بكل بساطة، ويرفضه المسلمون، وكأنهم حقا يريدون أن يؤكدوا نظرية أنّ الشعوب التي اعتادت سوط الجلاد لا تستطيع أن تتنصل منه، وإلا فإن الألم الذي استمرأ لذة السياط سيعود إلى المطالبة بها.
هنا الخوف من الآخر، خوف المسلم من المسلم بالذات يتصدر المشهد، فالجميع يريدون أن يؤكدوا هويتهم الإسلامية في بلد مغاير لمعتقداتهم، إن في اللباس الذي يدّعي الالتزام، والاحتشام، وإن في إرخاء الذقون، وإن في اللهج بتحية الإسلام، ورفض ما عداها من تحيات رغم أنه تعالى قد دعا إلى الرد بالأحسن على مطلق التحية والسلام في كتابه الكريم من سورة النساء " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا " وإن بالإصرار على ذكر التعاليم الشرعية في الحديث، والتواصل اليومي والمعيشي بقصد تقرير التزامهم بها، وإن في المعاملات التي تحمل شكلا دينيا، وتنطوي في مضمونها على شكل مناقض، وإن في تنصيب بعض الناس أنفسهم حكاما وقضاة على البشر، والتزام دور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، في الوقت الذي يحتاجون هم أنفسهم للإدانة والمقاضاة.
ومن الممارسات المتمسك بها هنا تقييم المرأة على أساس غطاء شعر لا يتعدى محيط رأسها، ليسقط عن جسد يصرخ بما يرتدي، وتقصير الأثواب عند الملتحين في تأكيد على اتباع الشرع، يقابله إرخاء النظر عن معاملات تتصف بالنفاق والكذب في تحليل لكثير من المصالح الحياتية، حيث للإفتاء هنا أكثر من باب.
ومن الأمور الكبيرة هنا تحليل تعدد الزواج الذي يسمى شرعيا، ويجريه شيخ بعقد لا يسجل في الدولة في بلد يحرّم تعدد الزوجات، ولكن طرق الالتفاف هنا كثيرة، وهي في مضمونها الحقيقي تقابل تماما العلاقات التي يقوم بها غير المسلمين دون أن ينسبوها إلى دين أو يحتالوا عليه، بينما يحرمها المسلمون وينسبونها إلى الزنى، فهناك زوجة أمام الدولة، تقابلها أكثر من زوجة محظية مخفية، في سبيل المتعة الشرعية التي يحرص عليها المسلمون بما أنها كما فهموا مرخّصة من الله، وغضوا النظر للأسف عما ألزمها الخالق حين شرّعها من القيود الصعبة جدا، وكي لا يُحرم، ولا تُحرم الزوجة المحظية مما تقدمه الدولة من التسهيلات، من سكن حكومي رخيص وما تدفعه لها من مساعدات تحرص فيها على كينونة المرأة الحرة في حال تعرضت إلى إساءة ما، فإنها تقبل بأن تكون غير مسجلة رسميا، بل وإنها تتعمد ذلك، لحرصها أيضا على تواجد الزوج، وما يتبعها من الامتيازات المادية، وقد قابلتني أكثر من حالة هنا لنسوة شابات، أو حتى كبيرات في العمر يمارسن الأمر بكل بساطة، ولا يكلفن أنفسهن عناء تبريره في مجتمع يسمح لأي إنسان فيه أن يمارس حريته بالشكل الذي يرغب، ويفهم.
تحليل الأخذ من الدولة بالالتفاف على قوانينها لا يعتبر حراما، وممارسة أعمال يرفضها الشرع من مسلم لا تعتبر حراما حين تمارس في جميع أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة، في استمراء وقح من البعض للآية الكريمة من سورة الجمعة والتي تقول: " أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" مغفلين أنفسهم وضمائرهم عن المقصد الأساسي الكريم من الآيات.
هذا المجتمع الحر الذي يتعايش فيه المسلمون مع غيرهم للأسف لم يفتح بصيرتهم على ما فيه من فضاءات الحرية الحقيقية التي تشرع للعاقلين آفاق البناء الحقيقي ونشر أخلاق دين يعتز المسلمون الصادقون بالانتماء إليه ضمن بوتقة العالم الإنساني الذي يؤمن بالحرية، وبالتعايش الفكري والحضاري للحفاظ على استمراره، أما الكثيرون، وأركّز على كلمة الكثيرين ممن يحملون الإسلام كصبغة، وانتماء، فلم يستطيعوا للأسف أن يكونوا حماة لهذا الدين، ولا أصحاب بصمات متميزة يُشهد لها في ركاب العالم الإنساني بالثبات وترسيخ الأقدام، فهناك حضور شكلي للمسلمين أهمه التركيز على الشكل الذي يحسب شرعيا في المظهر الذي يتزايد تواجده في جميع الأمكنة بشكل ملفت، بينما أصحابه قد صرفوا مداركهم عن أن الالتزام الداخلي والسلوكي أهم بكثير، بل هو الأول، والمركز والمحور، وكم أنه من المخزي أن تُفرّغ الهوية الإسلامية من مضامينها القيّمة لتصبّ على الشكل والمظهر والمَطوى غير الطاهر، فينوء الجسد الحامل لها بما حُمّل من أدران تتنصل منها الفطرة، ويغدو صاحبها وصمة عار بدلا من أن يكون الأنموذج المشتهى.
ويظل هذا غيضا من فيض، ولعلّ الآية الكريمة من سورة " المنافقون " خير المُوصّف في معرض الحديث هذا " وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ".