لم يفتقده احد حتى في اوار الأيام وشدتها، سار بين العامة، يتخبط بأكاتفهم بغية لفت انتباه، جاب الشوارع العريضة، أرتمى على ارصفتها كثيرا حتى باتت تمل من سحنته كلما صَبَب عرق جسده على ارضها، نازح ومشرد على تقاطعات طرق لا يلبث طويلا دون خطابات يحملها في جوفه المكتنز امتعاضا من كل شئ، يحب الصخب وحديث الناس عن شكوى لا تتغير، الوضع سيء بل من سيء الى اسوأ، الكل مكتوف الأيدي، لا حيلة لهم ولا قوة على تغيير سوى بالكلمات، هكذا هي الأزقة ومقاهيها المفترشة عورات الآخرين بلغو الحديث التي يجوبها حين تعتريه الحاجة الى الصراخ والتعبير عن سبب حالهِ، تفتقر نفسه الى الشجاعة والجهر بعوزه، جلبابه، شكله، وانحناء ظهره لم تكن كفيلة بعكس عجزه، اعتمر قبعة من بقايا جرائد، تلك التي تُرمى في حاويات النفايات، طالما استغرب عن صانيعيها وانفرادهم بالمفاخرة والجري وراء اخبار سمجة عن العالم الآخر، الحديث الخيالي في كل شئ، يتناسون عالمهم الواقعي صاحب المرارة والغصة، يا لنا من بشر نلهث في اشباع رغباتنا لِلحظات في مشاهدة صور الملونة للمشاهير او الراقصات خلالها او من عبر شاشات تلفاز بشهوة، وما ان نعرج على اخبارنا المحلية حتى نصاب بالإحباط، ثم نندم بالضبط كمن يمارس العادة السرية حيث يصنع لنفسه عالم من المحرمات ثم بعدها يشعر بالوهن والخذلان.. متى ما اصطدم بما حوله.. كُلٌ يحمل مطرقة ليصنع لنفسه سوقا عاما ليخرج ضجيجه الخاص به دون ان يشعروا به.
سوق الصفافير.. هو السوق القديم والمحبب الذي يشعر بالحرية فيه حين يقف ويصرخ منتقدا كل شئ حتى نفسه كإنسان، فُتِق من بطن عاصرت البؤس والجوع، لم تشرع بعدها للرغبة في الحياة، فأسلمتنه الى عالم موحش عجنته الوحدة، فراشه الأزقة، لباسه بقايا اسمال، فقال جهرة يا الله!! كيف سمحت لي بالعيش في دنياك دون شهادة ميلاد او عنوان، حتى من جئت من صلبه قتل من اجل صراع على رغيف خبز.. علمتني الأيام بأن لا أرخي بما في داخلي الى احد، شرعت بمخالطة اجناس مختلفة بين المتعلم والجاهل، الكبير والصغير، المسؤول والعوالق .. الى أن افرطت ذات مرة وانا اترع وارتع مع جماعة المصادفة، فكان حديثي واشمئزازي نصيبه ركلة على مؤخرتي وضربات على القفا،وقلع اظافري ثم الى دهليز معتم وخوازيق مختلفة، لقد أُشبِعتُ منها الى حد كارثي.. لا اتذكر كيف خَرجت؟ ولمَ اخرجوني!؟ ربما هي تلك اللحظة الوحيدة التي احسست ان لي عند خالقي قيمة، كل ما اعرفه ان احدهم قال لي حين خرجت ممسكا بأصابعي بشدة، هذه المرة عفونا عنك، لكن المرة الثانية سيكون حياتك هي الثمن.. ضحكت بصوت عالي وقهقهة لفتت انظار من سمعها وانا ارد عليه ..
عن اي حياة تتحدث؟ وهل تظن أني بني آدم بعد الذي لقيت؟ قد كون لي فتات بقايا آدمية في نفسي، لكن بعد الذي مُورِس علي من تعذيب لعذرية فقدتها عند او خازوق و أول اعتداء.. صرت مومسا.. بل اني اعتذر من المومسات، سأكون محددا صرت فرخا لجميع أدواتكم لكني غير عوام، لا تغضب يا هذا، فالذي سُلب مني لا يبرره قول صَدحتُ به وانا في حالة عربدة، لا تهتم لشأني، فمن اكون حتى تخاف مني وتعمد على تهديدي؟ سأقولها صراحة لك منذ الآن، سابوح بمكنون مأساتي، سأعيشها لحظة بلحظة مثل الألم الذي تجرعته حتى بات لي ملاذ لأنام بعيدا عن كل شيء، سأتذوقه مثل رغيف الخبز العفن الذي اشبع به بطني كل ثلاثة أيام، سأغتسل بجرائمكم كما اغسل جوفي المتحجر بالظى متى ما شربت الماء الآسن او بولي.. عن ماذا تتحدث وتهدد؟!! خذ حياتي الآن إن شئت، وإلا دعني بجنوني اجوب وحشتي ومستنقع الأيام.. والآن هلا تركت أصابعي
عليك اللعنة يا ابن الكلب.. اذهب الى الجحيم..
ههههههههههههههه الجحيم واي جحيم اكثر مما كنت فيه وإليه خرجت.. بل الى الجحيم انت ومن يحكمك يا خنزير السلطة
قالها له بكل جرأة.. لكنه لا زال يشعر بالصفعة التي دوت على صدغه واطارت بقية الشرار من عينه، هي واحدة لم تكن جديرة كغيرها من ثني عزيمته التي تجعلنه يبوح بالخطيئة..
لم يعشق زقاقا كما عشق زقاق سوق الصفافير، فحين يعتمر طائفا فيه، يرى تلك الوجوه القديمة المنقوشة وقوانين حمورابي، وملوك صنعوا التأريخ والحضارة المصنوعة بحرفنة، بعد ان حفرت السنون تجاعيدها على وجوههم، فكل منهم يحمل التأريخ على اكتافه حتى اثقل فأنحنى وهو يدق بالمطرقة على آنيات النحاس او الصفر، مثلما يدق المعلم في كثير من الأحيان على ايدي التلاميذ الكسالي ليصنع منهم نموذجا يبقى للمستقبل يحتفى به هكذا يبرر فعله، يُسَلم على الجميع، البعض يرد السلام والبعض الآخر يبصق على الأرض اشمئزازا على شكله، يتلقف بصاقه كمعروف يُذَكره بأنه سيرده له في يوم ما، لكن عن طريق حين يسمعه خطابه من هو يخاف منه، يتناسى الجميع انهم كتلك الآنيات يحتاجون للطرق على رؤوسهم ليظهروا خلاف ما يظنوه، فعالمنا الحديث يعمل جاهدا على تطوير البشر حتى يستعبدوه قلبا وقالبا، بل يمتصونه كالأسفنجة بعد ان يملئونه باوحالهم التي ينتجونها بشراسة، الغريب!!! انهم يتلقفونها بشكل اسلامي او تأسلم، فكل حرام لهم له باب او ثقب باب يدخله عالم الاستحواذ والعمل الحلال، إنهم ارباب يعبدوهم مما تصنع لهم أيديهم، اما عقولهم فهي تعمل الى صنع طرق جديدة للعبودية، وبالدين المفبرك الذي يعتقدون أننا نجسده في عباداتنا المثقلة بالذنوب.....
سارع من يعرفه لتكرار مشاهدته بآنية ماء وقطعة من خبز، جلس يمضغها بلسانه المتخشب، وفاههُ المتصحر، فما ان عَبّ الماء مع اللقمة حتى شعر بالغصة، كونه لم يتعود شرب الماء المبرد.. كَح حتى جحضت عيناه، كاد يختنق لكن لم تكن لحظته قد جاءت بعد.. الغريب!! لم يلتفت لحاله اي احد، فعالم الصخب والضجيج يتيه فيه ويضيع حتى الموت نفسه..
فقال قولته التي يرددها بين فترة وأخرى، يا سادة العرب يا أصحاب الضجيج كما يضج الحجيج، يا سادة المطارق البعيدة عن المسؤول والعوالق، يا اصحاب الصفا .. فير ، أين انتم وقد ذبح على التل البعير، ونفخ في الكير، وساد العالم الموبقات والفساد والحمير؟ أين انتم يا من وقفتم لاشك تبغون الغفران على عرفات؟ وخلفتتم وراءكم الدجاجات وقد فعل ما فعل بها الثعلب حين فات، دوي مطارقكم، صراخكم كأزيز نحل، وحصاد اعماركم ومستقبلكم قطعت بحافات منجل، كلكم اخوة لكنكم كأخوة يوسف، ما ان امتاز احد عنكم، رميتموه بسهام وحدتكم وذؤابات السيوف، خير دعاة في صخبكم فكثرة منابركم، زادت من مقابركم، نحيب اراملكم، نساءكم، امهاتكم واخواتكم، زادت من عذابكم، فبتم كمن يبيع ليشتري، ويشتري ليبيع بخسران الميزان، رابح كان ام خسران، والضرع بات في شأن وانتم تبحثون حصادا بخذلان، جاركم لاه في قرض ثيابكم، حتى تعريتم حتى من لباسكم، عورتكم بانت، كرامتكم هانت، فبعتم بالرخيص من ارضكم ظنا انه النفيس، فبعد جلاد جرذ طامسا رأسه، صار لكما جلاد بديمقراطية وحراسه.. مالكم؟؟ ألا تفيقون!؟ ام الى الموت سباتا تسعون.. ألا لعنة الله على من باع المستقبل، وتوسط الجمع حامدا شاكرا ثم تبجل، ألا يكفيكم ما انتم فيه؟ صمت موائكم صهيل، وعويل ذئابكم هديل، لكني اراكم كما اسمعكم همسا تقولون الله المستعان وصبر جميل..
لقد كرهتموني بحواركم هذا، فالله قد رآكم وقود جهنم انتم وما تعبدون من حجارة، لا تستحقون الحياة، فسلط عليكم من انفسكم جهارا نهارا..
العجيب!!! انكم لا زلتم تضحكون وتدقون وتطبلون، بعدها ترقصون، كما هي جاهليتكم الأولى، فالحرب عندهم قرع طبول وخمر وعربدة، مثلها الآن تدور رحاها يقودها قارعي الطبل بمنهجية الجهل الممهدة..
ما لي أراكم لا تحسون، يا نافخي القرب كالبطون، ألا تشمئزون
ردد .. وردد حتى شعر بالظمأ..
توقف عن الكلام وانضم بين مارة السوق دون ان ينصت إليه أحد أو يلتفت إليه، إلا من لطمه على صدغه، وهو يردد خلفه لا زالت لديك القدرة على الكلام يا ابن الكلب... يبدو انك تشتاق للخوازيق.