رأينا من العجائب ما سد حاجاتنا في هذا الكون، ولم نر عجبا عجابا كالذي حققه موضوع الزواج في المجتمعات المتخلفة، والتي حصرت كينونة البشر، وقدومهم إلى الحياة في بؤرته، وكأن الناس لم يأتوا للدنيا، يحملون رسائل، وقناعات، وأفكارا، وطموحات، وأهدافا، غير تلك التي لها ارتباط وثيق وعلاقة وطيدة بالزواج. معلوم أن الحشرات وصنوف الحيوانات والطيور تتناسل وتتزاوج، وهذا أمر طبيعي غريزي لاغبار عليه، ومعلوم أيضا أن الزواج أمر من الله تعالى، وسنة من سنن الأنبياء الذين اصطفاهم، وعلى رأسهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا غرو في المكانة الرفيعة التي تحتلها هذه المؤسسة، والتي تتفرع عنها أسر وعائلات، فيتكون لدينا مجتمع يتقاسم أفراده الكثير من الأشياء، أولها إعمار الأرض في طاعة للخالق سبحانه، والإحسان إلى البشرية، والسير بها نحو الخير والسعادة والحب، تحقيقا للإنسانية والرقي بها نحو الحضارة. إن ما لم يستسغه العقل، ونحن نتحدث عن موضوع الزواج، هو تلك القيمة المبالغ فيها التي منحت له في المجتمعات، حتى صار من دخل قفص الزوجية كمن عبر الصراط، أو حقق انتصارا عظيما لم يسبق إليه أحد، رغم أن آثار الزواج يهم الشخص ذاته، أكثر مما يهم غيره من الناس، ورغم أن الموضوع يكتسي صبغة شخصية يتحمل فيها الفرد نفسه مجموعة من التبعات، قبل أن تطال تبعات أخرى منبثقة عن الزواج باقي شرائح المجتمع. إن أخطر ما يمكن أن نرى في مجتمعاتنا المتخلفة، تطعيم عقول الإناث بفكرة الزواج، قبل بلوغهن حتى، فما أن يحدث أول بلوغ للبنت، حتى تكون قد تشبعت بالفكرة جيدا، فتشعر أنها قد اكتمل نضجها، وصارت جاهزة للزواج، فتشرع في التهيئ له جسديا ( وأضع سطرين تحت جسديا)، بإشراف من محيطها الأسري، الذي تكون له مساهمات كثيرة في الأمر أحيانا، في سبيل أن تنجح هذه البنت في اقتناص ذكر، يتخلصون منها بواسطته، ومن مسؤولية الإنفاق عليها، التي تنتقل كما هو معروف من أهلها إلى الزوج بعد إبرام عقد الزواج، حيث تبدأ رحلة تبجحهم ، وتباهيهم وتعاليهم على الناس، وتذكيرهم في كل مناسبة أن فلانة ابنتهم جن بها كل الذكور، وعدد خطابها كانوا كثرا، لم يرضها أي منهم إلا هذا الذي تزوجته، فلم يكن أمامهم سوى المثول لرغبتها وتزويجها، بينما الحقيقة كل الحقيقة، أنهم هم من أسرعوا بالأمر، رفعا للمسؤولية، وتخلصا منها إن صح التعبير، بعد جهد جهيد في تلقينها أن سقف حياتها يقف عند موضوع الزواج، وبعد أن صدقت ما مرر إليها، وعاشته بكل تفاصيله، تستيقظ في النهاية على أنها كانت واهمة، وأن الزواج ليس كل شيء في حياة المرأة كما سبق واعتقدت. على أن هناك صنفا من النساء، على وعي بهذه الحقيقة بفطرتهن، لاينصتن لصوت أهلهن وإن أجبروهن على الزواج، يرغبن أولا في تحقيق ذواتهن، وهؤلاء غالبا ما تسمع عنهن في المجتمعات المتخلفة، أنهن بقين وسيبقين مصيبة في عنق أهلهن، بهذه العبارة اللفظية القاسية يتم نعتهن، مما يفيد فعلا، أن المرأة تشكل ثقلا كبيرا على أهلها، لايتم التخلص منه إلا عن طريق الزواج، وان لم يحصل هذا الزواج، فلا حياة لها ولا مستقبل ولاحضور ولا أهمية، وهو ما يتم التسويق له بمختلف الوسائل، فتعيه المرأة بالتدريج، وتردك في الأخير في الأخير مقدار مهانتها في مجتمعها، لأنها لم ترضخ لقوانينه المجحفة في حقها. لقد صار الهم الأكبر عند بعض الإناث في هذا العصر هو الزواج، وبات التهافت نحو تحقيق هذا الهدف هوسا يشغل بالهن، إذ بمجرد أن تتم الخطبة – هذا إن كانت هناك خطبة من الأساس، حيث هناك الكثيرون ممن يمرون إلى الزواج مباشرة في تسارع مع الزمن – فإنهن ينعزلن عن غيرهن في غير قليل من التعالي، مسيئات لمفهوم الزواج باعتباره نواة اجتماعية إيجابية في التواصل الإنساني، تكرس علاقات التوادد والتراحم وأواصر المحبة بين الناس داخل البيت وفي المجتمع. إن الزواج الذي شرعه الله تعالى، حباه بالعديد من المميزات، وطبعه بطابع الجد، ولم يقبل بالهزل فيه أيا كانت مستويات هذا الهزل، قال صلى الله عليه وسلم” : “ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ ” . رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم. والزواج في شكله المعاصر، صار مهينا للمرأة أكثر مما هو مكرم لها، يعتني بها سطحيا، ويرمي بها بعيدا إذا ما تعلق الأمر باعتبارها ذاتا إنسانية، وكائنا بشريا جديرا بالعناية والاهتمام. لقد ساهمت المرأة نفسها في تبرير هذه الإهانة ، حينما لخصت الزواج في جسد يعاشر آخر على فراش الزوجية، ويلزم التحضير الكلي له بالاعتماد على درجة الغواية والإغراء والجاذبية، من دون الوعي بمسؤوليات أخرى أكثر أهمية، ومن دون الانتباه إلى أن ما أخذ من وقتها الكثير، إنما هو لحظات عابرة سرعان ما تمر، تتشابه فيها كل مخلوقات الكون، ليجد الإنسان نفسه بعدها في مواجهة مجموعة من المسؤوليات، لم يتم التحضير لمستلزماتها، مما يعجل في كثير من الحالات بالطلاق، حيث لا ينفع الندم. فكيف ينظر المجتمع المتخلف إلى المرأة غير المتزوجة؟ رغم أنه أمر شخصي، وقرار خاص يعود لصاحبته بالأساس، لعدة ظروف واعتبارات هي أدرى بها، إلا أن المجتمع المتخلف لابد أن يحشر نفسه، ويصدر أحكامه الجاهزة على المرأة، ولا يتأخر في مطاردتها وإلحاق الأذى بها، قاذفا إياها بالأوصاف الجارحة، مهينا لكرامتها كإنسانة، حيث كلما تقدم سن المرأة وهي من دون زواج، ارتفع معدل ظلمها واحتقارها، وهناك من تصير مضرب المثل في وسطها، كلما رفضت بنت في محيطها الزواج أو طالبت بتأخيره إلى حين، ذكرت بفلانة في نعت لها ب ” العانس”، كي تعدل عن فكرتها، وتبادر بالزواج الذي هو بنظرهم يعزز مكانة المرأة في المجتمع، ويعطيها قيمة أكبر، حسب تصورهم . يتجلى واضحا أن خانة الزواج بالمجتمع المتخلف ضيقة جدا، لاتستوعب كل النساء، تقبل فقط بصغيرات السن، بينما المرأة التي تجاوزت الثلاثين، وتخطت الأربعين تعاقب على عزوبيتها الممتدة، وتعتبر امرأة منتهية الصلاحية، لا حق لها في الارتباط بالأعزب، ولا نصيب لها في حياة زوجية مستقرة، ذنبها في ذلك أنها كبرت في العمر، وكأن التقدم بالعمر لصيق بها وحدها في الكون دون باقي البشر. حين نتصفح سيرة الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، نجد أول زيجاته كانت أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، حيث كان هو في سن الخامسة والعشرين، بينما هي في الخامسة والأربعين، ولم يعمل فارق السن على تعطيل زواجهما، ولم يكن سببا معيبا للزواج كما هو معتمد في المجتمعات المتخلفة الراهنة. الغريب هو أن هذه المجتمعات، يمكنها القبول بامرأة عجوز قادمة من بيئة مختلفة، ومن ثقافة دخيلة لا تتوافق مع ثقافتها الأم، بينما ترفض في المقابل تزويج ابنها من امرأة مسلمة لابنها المسلم، والتي تتجاوزه عمرا ببعض السنين أو الأيام والشهور، بدعوى أنها ” شارفة” و” بائرة” كما يعشقون نعتها، في حين أن الأفواه تغلق تماما عندما يتعلق الأمر بالأوروبية . إن المرأة تحاسب على أخلاقها وسلوكاتها وتصرفاتها، وليس على أشياء ليس لها يد فيها، أما عمرها ورزقها وقدرها فيظل بين يدي الله، ومن هذا المنطلق، لايحق أبدا التجريح فيها، تحت طائلة تأخرها في الزواج، أو امتناعها عنه بشكل كلي، تخصها وحدها. لا بد لخصوصيات المرأة أن تحترم وتقدر، والمجتمع الذكوري الذي وجد متعته ولذته في النيل من المرأة، عليه أن يراجع حساباته، ويعيد النظر في أحكامه، ويسعى جاهدا لتكريس ثقافة احترام المرأة من حيث هي كائن بشري، يملك روحا وأحاسيس وكرامة وحقوقا، من دون الإسهام في مضاعفة حجم الحيف والظلم في حقها، عن طريق القبول بما يقدم عبر وسائل الإعلام المتعفنة، والتي تحدد مجالات اهتمامها بالمرأة في كل ما هو سطحي شكلي، دون أي اهتمام بها كإنسان جدير بالحب والحماية والتقدير المستحق .