في عيدك.. تلبس التلال أجمل حلة من الألوان الخضراء والصفراء، والبرتقالي وقرمزي الألوان، والوديان تتهدر وتجري على طولها وعرضها أشجار تزهو وتتمختر، مزهوة مزهرة بزهر اللوز والليمون والمشمش، وأواخر الرمان، وأما عبير وشذى النوارات الخضراء والصفراء فهي مسك وعنبر وورد البيلسان، وصدح العصافير تشدو لست الحبايب كل الأوقات، هي كالأرض وسر الطبيعة، وأشجار الظلال، ونكهة زيتونة الزاد، وأشجان نسائم الرياح، تمنحك الدفء والخير والأمان.
الصدق ربيع قلبها، والمودة ثمرة مروءتها، والنقاء شعاع ضميرها، والمحبة والحنان عندها كالشمس تشع بين الغيوم والأمطار.
الأفكار والكلمات هي مفاتيح تفتح بها قلوب الصغار والكبار.. أو تغلق بها، تلك النفوس، وتكشف صدى وتراكم الذكريات.
كلمات الأم هي المفاتيح لكل الأبواب، هي مشرعة الأبواب والمساحات بلا أقفال ولا قوافل ولا جدارات، حاضنة الجميع وراعية الوجدان.
كلمات الأم هي كلمات العيون، والقلوب والشفاه، حروفها وكلامها من ذهب إلى أناس أغلى من الذهب، النصائح عندها جواهر وألماسات، تنبع من عاطفتها وقلبها المنهك من التكرار.
لا نعرف قيمة ما نملك حتى نفقد ما كنا نملك، وبعد فوات الأوان، من حسن حظنا، في تلك الأيام الجميلة كانت هناك رسائل تحرر، وهذه تحرك فينا اللوعة والذكريات، إحدى تلك الأيقونات.
حبيبتي أسعد الله أوقاتك وبعد..
حبيبتي.. ما أحلاها من كلمة عذبة على اللفظ والسمع، سلامات وتحيات وأشواق وقبلات من القلب للقلب، لا يقدر القلم أن يعبر عنها، ولا يستطيع الحرف أن يمد خطوطاً وجسوراً تعبر بها لتصل لمن لهم الاشتياق ومخزون العواطف والقبلات.
لو حاولت عد الاشْتِيَاق، واللَهْفَة والتوق، لأخطأت في الحساب، فهي لا تعد ولا تحصى، ولو حاولت تقديرها لعجزت عن الإملاءات، أنت يا زهرتي البرية البهية، ذات التيجان الوردية، والرائحة العطرية.
حبيبتي.. أكتب لك وعيناي ترقرقان من شدة الدموع ومن ألم الفراق، ومن وحشة البيت والفراغ، يا أعز عزيزة لديَّ في الوجود.
صورتك لا تفارق مخيلتي كلما أكلت، أو شربت أو نمت أو ضحكت فأنت نوارتي ومهجة قلبي، يا ساعات ويا ليالي ويا أيام، أسرعي لتعودي لي يا ابنتي من هناك سالمة ومعافاة، حاملة للشهادة كي تقر العين، ويهدأ البال، وتفوز الحواس، ويكن القلب.. يا ست البنات.
ليل نهار وفي كل صلاة أدعو الله أن يحفظك من أي بلية أو مكروه، وأن ييسر لك صاحبات الخير وحسنات الشمائل وطيب الأفعال، وببعد عنك أصحاب السوء وقبح السلوكيات، يا أملي ويا مهجة قلبي، كم أحبك.. فأنت نوري في الفضاء والظلام.
[هذا التحرير سال من مهجة قلب أُم خطته لابنتها في غربة المكان]
سألوني ما سر سلامة عقلك الرشيد؟
قلت: أم أنجبتني في الشتاء الكظيم، وعلمتني أصول اللغة بصوتها الحنون في الربيع، وصدت عني لفحات الجهل في الصيف اللهيب، وصانت أنوثتي من سقوط في خريف، وقتلتني بموتها كل أيام السنين.
أولادي وبناتي.. حافظوا على أمهاتكم وآبائكم قبل فوات الأوان، اكسبوا ودهم، اكسبوا دعواتهم، اكسبوا برهم، احترموهم واعملوا بنصائحهم حتى لو أصبحتم تفوقونهم في القامة والمراكز واللسان والشات والمال؛ لتنالوا التوفيق في دروب الحياة، وتنالوا رضاهم بعد الخالق الرحمن.
بسم الله الرحمن الرحيم:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} سبحانه، أمرنا بالأمر الواجب لا تضجر فهم سبب وجودك بهذه الدنيا.
عندما يكون الوالدان في كنف أحد الأولاد، فهو مأمور بأن يتبع معهما وطأة الخلق ولين الجانب، وألا يقول لهما أف إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل.
يتزوج الشاب أو الفتاة، وتتزين الفتاة بتاج الأمومة، وتلك هي أسمى علاقة للحب وعشق الولهان، التي يكتمل بها عش الزواج.
في غريزة الأمومة، العطاء هو حليب سائغ سريع الإدرار، والعواطف هي سيمفونية الألحان، ترسل الألحان العذبة الملائكية للأطفال تسير بهم لبحور من التضحية والمحبة والاهتمام، والتعب ونكران الذات، تشرف عليهم في مشاوير الدراسة والتألق عبر مدارج الحياة، رغم ضيق الحال والصعوبات.
حدثني قائلاً: رفضت عروض الهجرة لأستمد من أمي دعوات النجاح وأكحل عيني برؤيتها كل مساء، نحن سبعة نتناوب على خدمتها ليل نهار، هو بر الوالدين وأوامر الرحمن.
ومن جهة أخرى هناك أبناء وصبايا تعوَّدوا على الأخذ وليس العطاء، الزمن هو ساعة الحائط، والوالدان لهما محطات قريبة ستكويكم عند الفراق، والمشاعر ليست لوحات على حائط المكان؛ بل هي إظهار وسلوكيات، وثيرموستات، لا تبعدوا المسافات، ولا تتهكموا من خرف أو نسيان لذاكرة أمهات أو آباء كانوا يوماً عباقرة وأساتذة يشهد لهم بالبيان، ولكن هو أرذل العمر، ومن يدري خاتمة عمره، أهي شقية أم سهلة المراد؟!
نكرم الأم يوماً في السنة وهي تكرمنا كل الأوقات، الأم كنز لا يضاهيها أي جمال، أليست الجنة تحت أقدام الأمهات؟ أليست الأم هي سر الوجود لكياننا منذ نعومة الأظفار؟ فمن دمها وعظامها نشأنا أقوياء.
أليس ألم الولادة يفوق الآلام، وأكثر إيلاماً من تكسير العظام إذاً لِمَ نرى أبناء وبنات غير بارين بالأمهات والآباء؟!
ذهبت هناك، إلى بيت العجزة، إلى بيت الكبار، إلى بيت المحبة لمن عجز ابنه عن محبته، دعوني أحدثكم ماذا رأيت هناك، كانت سيدة تبدو من عائلة راقية جالسة مكوعة زاهدة، سألتها ما قصتك؟ ولِم أنت هنا؟ نظرت بعينين سابحتين بالدمع، وأومأت برأس مربوط من شدة الوجع، رافضة التحدث.
قلت للمسؤولة: أتعاني مرضاً، حدثتني بالنفي هي ترفض الكلام مع أحد، لكن عندما تنام نسمعها تقول: لماذا تركتوني هنا؟ لقد ربيتكم وأولادكم، لا أريد رؤيتها، وتعيد تلك الجملة مرات ومرات (وتقصد ابنتها) دعوني أموت.
ذهبت لأخرى كانت تسعل تلك السعلة النابحة، سألت ذات السؤال، فقالت هي السبب، تعجبت وقلت: من هي؟ قالت: الكحة اللعينهة بسببها لم يتحمل ولدي الكحة أثناء مشاهدته لفيلم، لا ألومه فكحتي مزعجة ويخاف نقل العدوى لهم، لا ألومه، لكني أشتاق لهم، فقد ربيت الكبير وعمر الصغير وأمهم في التوظيف، فأنا لم أرَ أياً منهم من ثلاث سنين، يا إلهي أيحصل هذا في بلاد الإسلام.
كان الشعر الأبيض لامعاً مستنفراً يسرد قصة العجوز مع شفتيه، قال صحبوني لهذه الدار بعد إصابتي في القدم، وبسبب السكر اللعين بترت قدمي من الغارغرينا واجتمع أولادي لرد الجميل، يعلم الله كم عانينا في تربيتهم حتى وصلوا لقمة الطريق.
هو يتحدث معي وحجته تذرف الدمع كسقوط حبات الندى من ورق الخريف، كلماتها تسير على قلبي وسمعي ككراس يحترق من نار الهشيم، قالت: بعد إصابة الأب اقترح الابن نقل أبيه لغرفة قرب البويلر؛ لأن ابنهم يحتاج الغرفة لدراسة التوجيهي، ولتكون بعيدة عن عين الأولاد والكنة التي كانت لا تتحمل رؤية حماها المريض.. وعندما احتجت الحجة قرروا نقلهم معاً لبيت المحبة حتى يتسع البيت لاستقبال الضيوف، بين جملة وأخرى كانت الحاجة تدعو لهم بالحفظ وبأن القرار بنقلهم للدار قرار سليم!
ودعت لهم بقولها: يا رب احمِهم واحفظهم واغفر لهم.
حقاً ما أرى وأسمع إلهي!
إلهي.. رب اغفر لهم.. اغفر لهم.. اغفر لهم، إن ضلوا الطريق، والجنة حادت عنهم لأبد الآبدين.