لم يكن سحر الأمومة بالنسبة لي يتمثل في المرة الأولى التي أمسكت فيها طفلي، أو في الأسابيع القليلة الأولى التي بدأت فيها الحياة التي عرفتها، في الاختفاء، وبدأت من ناحية أخرى حياتي الجديدة في جسدي القديم ذاته.
كان السحر كله ينبع من العمل الشاق الذي قُمت به في الأشهر، أو حتى السنوات، التي تلت تلك الفترة الأولى؛ إذ بَدَأْت في تشكيل حياتي ونفسي على أن أكون الأم التي يحتاجها طفلي، حتى وإن كان الأمر مُخالفاً لإرادتي في بعض الأحيان، وشعرت بسحر الأمومة، في اللحظة التي توقفت فيها عن الحزن على حياتي السابقة؛ حياة الحرية والقوة.
أما بالنسبة لهؤلاء اللاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة مِنّا، فإن عواقب الأمومة أكبر بكثير، وتأخذ وقتاً طويلاً كي تتعافى منها وتتكيف معها وفي النهاية، تتقبّلها.
وبعد وصولي إلى الأزمة الحرجة التي كانت تُعَد بمثابة نقطة التحول، تم تشخيص حالتي بأنها اكتئاب ما بعد الولادة الحاد، بينما كان ابني نيد يبلغ من العمر ثلاثة أشهر ونصف الشهر، لم أَسْتَطِع التوقف عن التقيؤ، ولم يكن جسمي ينتج الحليب، وأخذ شعري يتساقط بشدة، ولم أتمكن من النوم أبداً، كما وجدت صعوبة في مغادرة المنزل.
انتابني الرعب الشديد من البقاء مع طفلي وحيدة، كنت أسمع صوتي الداخلي في كل دقيقة يخبرني بأنني لست قادرة على الحفاظ على حياة ذلك الطفل، الذي تمنيته طويلاً، وبكل خجل، طلبت من شقيقتي أن تتبنى نيد، ليس لأنني لم أحبه، ولكن لأنني أحببته كثيراً حتى إنني ظننت أن هذا هو الخيار الوحيد لإبقائه على قيد الحياة.
كنت محظوظة كثيراً؛ لأن طبيب الأطفال الخاص بي -بعد أن شاهدني وأنا أجيد التعامُل مع نيد في الرعاية الخاصة، وخروجي من المشفى بدونه- لم يتركني، وعلى الفور دلني على مدرسة للنوم في أحد المستشفيات الخاصة، وكنت محظوظة أيضاً؛ لأننا نستطيع تَحَمُّل تكاليف الإقامة لمدة ثلاثة أسابيع، والتي بلغت 5000 دولار، وذلك بعد قبولي كمريضة صحة عقلية في وحدة الأم والطفل.
ورغم أن الموظفين كانوا في غاية المهنية والتعامُل بلطف، فإنها كانت تجربة مخيفة وكنت أشعر بالخجل لوجودي هناك، وظللت أفكر في أن "مثل هذه الأشياء لا تحدث لأشخاص مثلي"، وأعني بـ "أشخاص مثلي"، أنني أمتلك قدرات عالية، وأتمتع بقدر من المهنية، ولديَّ بعض الامتيازات، ولا أواجه أياً من الصعوبات التي يتحملها البعض.
فقد كان المشفى يبعد كثيراً عن المنزل، ولم يكن يزرني أحد كثيراً، سوى زوجي، الذي لا بد أنه كان يشعر بقدر مماثل من الخجل واليأس؛ لأن زوجته لا تستطيع التكيُّف مع الوضع الجديد.
كما زارتني والدتي أيضاً، فكانت تقود لمدة ساعتين ونصف لتلحق بي في الزيارة الصباحية بعد تناولي للعلاج للمرة الأولى.
العثور على العلاج المناسب يُعتبر تجربة مُعرضة للفشل أو النجاح، وسيصدِّق على كلامي أي شخص مُصاب بمرض عقلي، وكانت تجربتي الأولى مروعة، بكل أسف.
أصابتني الحبة الأولى التي تناولتها بالقلق الشديد، الذي جعلني بدوره أمكث في الفراش وكأنني أُصبت بالشلل، وأنا مُقتنعة تماماً بأنني سأموت.
كنت أشعر وكأن قلبي سينطلق إلى الخارج من صدري، كُنت أرى هاتفي وهو يرن، ولكنني لم أكن أستطيع تحريك يدي، وعندما كانت القابلة المُوَلِّدة المناوبة ليلاً تمر وهي توجه ضوء المصباح اليدوي خلال باب غرفتي من أجل الفحص الروتيني كل ساعتين، لم يكن فمي يقوى على الصراخ.
وفي اليوم التالي، الذي زارتني فيه والدتي، عندما جاءت القابلات المولدات لإيقاظي، كان الفراش مُبللاً ومُلطخاً، وأصابتني نوبة من التشنجات.
كنت أود مُناداة نيد بينما كنت أتقلب بين حالات من الإغماء والإفاقة المُفاجئة، ولكنني أدركت أنني بالكاد أستطيع رفع رأسي.
وأتذكر أن القابلات المُولِّدات كُنَّ يَضِعن طفلي على جسدي في محاولة لإيقاظي وإعادتي لوعيي، واهتممن كثيراً بنيد لمدة يومين، في الوقت الذي كانت المواد المُخدرة تنسحب فيه من نظام جسدي شيئاً فشيئاً.
تحسّنت الأمور مع الوقت، والرعاية، والتصميم على التعافي، كان لزاماً عليَّ تَقَبُّل حقيقة أن البقاء في المشفى لم يَكُن عقاباً على سقطاتي، إنما هو فرصة كي أتعلم كيف أكون أُماً.
كانت لديَّ الشجاعة الكافية لمحاولة تناول علاج آخر، كان ذلك العلاج أكثر حداثة، إلا أنه لم يَكُن مُتاحاً بعد في نظام الفوائد الصيدلانية، ويُعد استخدامه مع وجود طفل حديث الولادة أمراً مُعقداً وخادعاً؛ لأنه يعُدك للنوم، ولحسن الحظ، أثبت فاعليته سريعاً، وفي غضون أيام، بدأت أعراض الاكتئاب والشك في التلاشي، حتى أصبحت مستعدة للعودة إلى المنزل في خلال أسبوعين؛ كي أعود إلى حياتي مرة ثانية.
لم يكن التعافي سهلاً ولا منتظماً، إلا أنني تمكنت من العثور على بعض الأشياء التي ساعدتني، ومنها الدواء بكل تأكيد.
على مدار الأسابيع التي قضيتها في العلاج، عادت الأدوية التوازن إلى الدماغ، وأصبحت أكثر عقلانية وتمكنت من الشعور ببعض اللحظات التي تشع بالفرح، والتي لا يُدخلها عليك سوى طفل حديث الولادة - طفلك أنت تحديداً.
تقبلت عدم قدرتي على الرضاعة الطبيعية، ولأنني قمت بعملية لتصغير حجم الثدي في بدايات العشرينات من عمري، انتابني شعور هائل بالذنب أن غروري وتفاخري تسببا في توقف قنوات الحليب في ثديي عن العمل، تجاوب نيد مع تناول الحليب عن طريق حاجة الأطفال، وتقبّلت أنا حقيقة أن "الطفل يعرف ما هو الأفضل" وأنه سيقرر كم الحليب الذي يحتاجه بمفرده.
عُدت إلى موعة الأمهات، واخترت الصدق وقول الحقيقة عن سبب غيابي، بدلاً من اختراع بعض القصص الوهمية عن قضاء عطلة ساحرة في الخارج، ونتيجةً لذلك، وجدت استجابة هؤلاء النساء، اللواتي بالكاد أعرفهن، عاطفية ومُريحة للغاية، لم يصدروا أحكامهم عليَّ، إنما تعاطفوا معي كثيراً في الواقع، وأخبروني عن الصراعات الخاصة التي يخوضونها هُم وكيف يتأقلمون ويتعاملون معها.
بدأت في تمرينات يوغا الأم والطفل، وأعربت عن شكري لهدية الأمومة مع طقوس نهاية التمرينات، فكنت أثني رأسي إلى الأسفل مع الشعور بالامتنان والشكر، ومع مرور كل أسبوع، كان ينبع من أعماقي بئر جديدة من العواطف، فكان يبدو المشهد وكأننا داخل تلك الكنيسة القديمة، وتحيط بنا مجموعة من الأمهات والرُضع، ويجري تطهيري فيها من الاكتئاب - في كل صف من صفوف اليوغا تلو الآخر.
مكثت والدتي بجانبي لمدة شهر، حتى استجمعت قواي وتمكنت من الاعتماد على نفسي، عندما يخلد نيد إلى النوم، كنت أستلقي في سريري غير قادرة على النوم، ولكني كنت أستمع إليها وهي تُحرك المكواة ذهاباً وإياباً لكي الملابس.
حساب عدد الحركات كان يُشعرني بالراحة والسكون، لا شك في أن تجربة اعتمادك على والدتك التي تبلغ من العمر 68 عاماً، كي تهتم بك وتُطعم طفلك ليلاً، هي تجربة ضرورية، ولكنها تخلف وراءها العديد من التأثيرات السلبية.
كما ساعدني أيضاً قراءة الموضوعات التي تتحدث عن أن اكتئاب ما بعد الولادة قد يكون عرضياً وأن التعافي منه مُمكناً.
في وحدة الأم والطفل، تجد النساء في ست من الغرف الثمانية، يقضين زيارتهن الثالثة أو الرابعة. أقدمت إحدى القابلات المُوَلِّدات المُسِنَّات بعد رؤية الرعب الذي تملكني، وهمست في أذني قائلة إن الأمر ليس مستحيلاً، وإنها على يقين بأنها لن تراني هنا ثانيةً، وأنا بدوري اخترت تصديقها.
عندما بلغ نيد 11 شهراً، عدت إلى عملي، ورغم صعوبة ترك نيد، مع شعوري بأن اكتئاب ما بعد الولادة حرمني من قضاء بعض الوقت معه، فإن الخروج إلى العمل ساعدني كثيراً على استعادة شعوري بهويتي الخاصة خارج نطاق الأمومة، وكنت محظوظة بالقدر الكافي كي يكون مديري في العمل (واسمحوا لي أن أشير بأنه رجل) من داعمي العمل بنظام ساعات العمل المرنة، وكي أتمكن من الصمود طوال اليوم في تلك الأيام، كنت أنام على المرحاض لفترات قصيرة تبلغ 20 دقيقة على مدار اليوم، حتى أصبح نيد ينام لفترات متواصلة أثناء الليل مع بلوغه 15 شهراً.
وبعد مرور 16 شهراً، ومع مساعدة طبيبي النفسي، تمكنت من التوقف عن تناول الأدوية الخاصة بي، ولم يكن السبب وراء ذلك هو أنني تخليت عن جين القديمة، أو أن تناول الدواء ومرور الوقت خلقا جينات جديدة، بل لأنني تمكنت من تشكيل شخصية جديدة، صعبة المراس ولكنها سهلة وعاطفية في الوقت ذاته.
ولا شك في أنني أعمل بجدّ لإبقاء اكتئاب ما بعد الولادة بعيداً عني، رغم مُطاردته المستمرة لي، ففي زيارتي الأولى للطبيبة النفسية، أخبرتني أنني يجب عليَّ المُحاربة بكل ما أوتيت من قوة؛ كي لا أسمح لاكتئاب ما بعد الولادة أن يحدد شخصيتي كأم، وبالفعل تمكنت من التغلب عليه.
ولكنني ما زلت مُمتنة؛ لأنه علمني أن هناك العديد من الأشياء حولي التي يجب أن أعبر عن شكري لوجودها، فأنا أعيش في بلد تمكنت من الحصول على مساعدة فيها، كما شعرت باحتضان الأمهات الأخريات (الجُدد والقدامى).
كان التعافي مُمكناً، شعرت بالحُب المُطلق تجاه طفلي، وصاحب ذلك الشعور، القوة ووضوح الرؤية، والآن، بعد مرور عامين، ومع كل مرة يقول فيها نيد "نعم، هذه هي أمي"، أعتبره تأكيداً على أن اكتئاب ما بعد الولادة لم يؤثر في تشكيل شخصيتي، وإنما جعلني فقط أُماً أفضل.