لكل إنسان أخطاؤه وعيوبه، عثراته وزلاته، وليس منا من هو معصوم من الخطإ والوقوع في الخطيئة، وإن كانت هاته الأخطاء والعثرات تتنوع وتختلف حسب المواقف والظروف والدوافع والمضامين، ومن حيث الحيثيات والجزئيات أيضا.
لقد سادت في الآونة الأخيرة ظاهرة الفضيحة، وانتشرت ثقافة هتك الأسرار واختراق عوالم الناس الخاصة، وحينما نقول الخاصة فإننا نقصد ما لا يؤذي الناس في شيء، بقدر ما يؤذي الشخص ذاته في نفسه أو ماله أو أخلاقه، فيكون المسؤول الأول والأخير عن هذا الأذى، والمذنب الأوحد الذي يستحق العقاب بعيدا عن أي ضحايا يجرهم معه، لا لشيء سوى لأنهم تحت وصايته أو تجمعهم به قرابة دم، أو يجمعهم مجال عمل معين أو ما شابه ذلك.
إنه لمؤسف للغاية أن تجد الناس ينجرفون وراء تيار الفضيحة ونشرها انجرافا قويا، إذ ما يلبث أن يشيع خبر ما، موثقا بصور أو مقاطع فيديو أو غيره، حتى ينال حظا وافرا من التداول بين العامة، يخبر فيه العارف الجاهل، ويطلع عليه المتابع غير المهتم، ليشغل اهتمامه ويدخله دوامة المشاركة والعلم، فتتوسع دائرة تقاسم الخبر المشين بشكل أكبر، والإدلاء بالتعليقات المتحمسة، مخلفة أضرارا معنوية خطيرة، لأشخاص أبرياء قد لا يكون لهم ذنب في الواقعة.
لم يسلم من ظاهرة الفضيحة مشاهير ولا أناس عاديون، فعشاق الفضيحة ألوان وأشكال، منهم محبو النهش في الأعراض- أعراض البنات والسيدات خصوصا- ، يجتهدون أيما اجتهاد في تتبع عوراتهن، ونصب كمائن متى وقعن فيها تحققت أركان الفضيحة، وكانت مقنعة بدرجة كبيرة لدى عقول الناس، فيزيفون الحقائق ويقلبونها قاصدين تلويث سمعة الضحايا، إما بدافع انتقامي، أو تعبيرا عن بطولة وهمية في القدرة على القنص.
وأي قنص هو؟ قنص غير محبب ولا مقبول، لأن من خلق العباد – جل وعلا – أمر بالستر، وحث الناس على عدم التحسس والتجسس وتتبع عورات الغير، وإذا ما رأوا منكرا وفسادا غيروه بطرق ووسائل راقية وهادفة، وليس بنشر ثقافة الفضيحة وتكريسها بين الناس.
من عشاق الفضيحة أيضا الشامتون، وهم أناس يكونون على درجة من الكراهية والحقد لطرف أو لأطراف معينة، ينتظرون الفرصة لسقوطه (هم ) ليبثوا روح التشفي، ويعبرون بأقسى الألفاظ ويجرحون بأوضع الكلمات، وليس ضروريا هنا أن يكون هؤلاء الشامتون على معرفة حقيقية أو على علاقة وطيدة بمن طالتهم الفضيحة، إذ يكفي أنهم يندرجون ضمن خانة المتفوقين سمعة أو الناجحين عطاء وعملا، أو المتميزين بصفة من الصفات التي تشد أنظار الصغير والكبير.
يعشق الفضيحة كذلك، أولئك المهووسون بالاصطياد في الماء العكر، والذين كل همهم حشر أنوفهم في قضايا لا تستحق الاهتمام، يضخمونها ويعطونها أبعادا مثيرة بهدف لفت انتباه الناس إليها، وشغلهم عن الأهم والمفيد في الحياة، فما توشك فضيحة أن تطوى صفحاتها حتى يخلقون أخرى عن طريق الاشاعة، وإن لم يفلحوا كثفوا الجهود أكثر للعثور على فضائح مزلزلة بشدة، عمموها وتابعوا بحرص نتائجها وآثارها، وكلما كانت هذه النتائج والآثار مدمرة كلما ساد الفرح والسرور، والاجتهاد أكثر لخلق البلبلة وتمديد مدة الذيوع.
للأسف، يشارك صنف من الإعلام والصحافة ( بنوعيه الورقي والالكتروني)، في نشر الفضائح، ويجد فيها متعة جالبة للقوت ومدرة للأرباح، فيهتم بكل ما هو مثير وعجيب، ويضع عناوين أكثر جلبا القراء والمتصفحين، والهدف كله تحقيق عدد مهم من المبيعات إذا كان الأمر يتعلق بالجرائد الورقية، أو تحقيق رقم قياسي في عدد الاعجابات والنقرات، التي من شأنها أن تغدق ببعض المال على أصحابها في المنابر الالكترونية والصفحات، دونما اكتراث بما يسببونه من أذى وأضرار معنوية للآخرين.
وكم من أبرياء ذاقوا الوجع على أشده، ذنبهم أنهم من أسرة مشاهير، أو من عائلة متورطين في أعمال إجرامية، أو أشخاص عاديون بسطاء ثابروا من أجل إنجاز معين، ثارت حفيظة أعدائهم، وسارعوا بكل الطرق لتحطيمهم بوسائلهم المختلفة، مختلقين فضائح أريد بها النيل من سمعتهم، والعودة بهم إلى الخلف.
كل امرىء خطاء، وخير الخطائين التوابون، وإنما الدين جاء للنصيحة وليس لهتك الستر والفضيحة، كما أن تتبع عورات الناس نهى عنه الإسلام، وخصص له جزاء عظيما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتَبّع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أحمد والترمذي. وصححه الألباني في صحيح الجامع.
لا تستقيم الحياة على حال، ولا تستقر على وضع، وهذا كاف بأن يجعلنا – معشر البشر – معرضين لكل أشكال التقلبات، فلا يفرحن إنسان في أخيه الإنسان عند مصيبة أو يشمت فيه، لأنه لا يعلم أي مصيبة تنتظره في حياته، ولا يعرف أي منقلب يمكن أن ينقلب حاله، وأي نهاية ستنهي حياته.
نسأل الله تعالى حسن العاقبة، وحسن الختام، ونعوذ به من شر الفتن والفضائح.