تقودنا بعض المقارنات بين قصص واقعية إلى استنتاجات قد لا يتقبلها العقل والوجدان البشري. لفتت انتباهي حكاية أب رفض إيواء ابنه الذي بات يعيش في الشارع بعد أن توفيت والدته وأدت الظروف إلى خروجه من منزل عمه الذي رباه لسنوات بعد أن تخلى عنه والده للزواج بامرأة ثانية وبناء أسرة جديدة. كبر يتيم الأم وأدرك قيمة بيت العائلة وقيمة الأب والإخوة والأم الذين يجمعهم مسكن واحد. أراد العيش مع والده وإخوته غير أن الأب رفضه بتعلات شتى من بينها أنه عاجز عن تأمين لقمة العيش له ولأخواته.
وحضرت في ذهني في المقابل مشاهد من فيلم وثائقي يصور حياة حيوان الحمار الوحشي، وورد في الفيلم قصة للحمار الوحشي زعيم القطيع الذي اختار غريزيا التخلي عن زعامة القطيع عند ترحاله من منطقة إلى أخرى لأن أحد أبنائه توفيت أمه في الطريق إلى المكان الخصب الجديد. ورفض الصغير إتباع القطيع وبقي بجوار جثتها.
ظل الحمار الأب مترددا بين مواصلة الرحلة مع القطيع وبين البقاء مع الصغير وكان يتقدم ثم يعود أدراجه محاولا حثه على اتباعه وترك جثة والدته. أبى الصغير ذلك، فما كان من الحمار الزعيم والأب إلا البقاء مع صغيره اليتيم وترك القطيع والرحلة وبالتالي تخلى عن موقعه كقائد للمجموعة.
القصتان واقعيتان الأولى منقولة بحذافيرها عبر تلفزيون الواقع والثانية منقولة بكاميرات الأفلام الوثائقية ومركبة بطريقة سينمائية لكن صورها واقعية. المقارنة جائزة بينهما ونحن هنا لا نقارن بين ما لا يقارن لأن نتائج المقارنة قد تجلب بعض الاستنكار لدى المعتدين بإنسانيتهم وبعلويتهم عن الحيوان.
صحيح أن الإنسان عاقل ويقال إن الحيوان ليس كذلك بل إنه يتصرف وفقا لغرائزه. لكن بحسب مجريات الحكايتين يبدو أن الإنسان وهذا الأب تحديدا ضرب بتخليه عن ابنه إنسانيته وقيمة وقداسة رابط الأبوة كأبرز سماتها في مقتل.
وفي المقابل ضرب الحمار الوحشي "الحيوان" مثالا في عظمة رابط الأبوة ولم يتخل عن صغيره اليتيم بل تخلى عن القطيع وعن مسيرته البطولية والمعارك الضارية التي خاضها من أجل قيادة القطيع.
الأب الإنسان تخلى ببساطة عن ابنه اليتيم المحتاج إليه وإلى حضن عائلة وإلى سقف بيت يأويه ويقيه شرور الشوارع ولا يبدو أن خياره كان فقط لإرضاء زوجته الثانية وليس للحفاظ على مكسب أو منصب كافح لأجله مثل الحمار الأب.
قد يلام من يقوم بهذه المقارنة على أنه قارن إنسانا بحيوان، لكن الثابت أن الأب الذي يتخلى عن ابنه رمى عرض الحائط بإنسانيته وبحيوانيته أيضا. كما شوه قداسة رابط الأبوة الذي لا تزيد عنه الأمومة في شيء. الأبوة وما أدراه ما الأبوة. عندما قرر الأب التخلي عن ابنه لم يدرك أبعاد خياره على ما يبدو بل حاصر نفسه بالحسابات المادية وقدم العديد من الحجج التي حاول من خلالها التأكيد على عجزه على التكفل بابنه وتحمل مسؤوليته كأب. هو لم يتفطن حين اختار إلى أنه أساء لجل الآباء وأهان الأبوة كمفهوم إنساني وكرابط غريزي مقدس وقوي لا يمكن التنصل منه ومن مسؤولياته بتلك السهولة.
قادتني حكايته والمقارنة التي جالت في خاطري إلى العديد من الأسئلة الوجودية عن واقع الناس اليوم، عن حياتنا وعن إنسانيتنا وما الذي أصابها؟ هل أصبحنا نستخلص العبر من الحيوانات وحياتهم؟ هل تفوقت وحشيتنا عن وحشية الغاب؟ ماذا أصاب الإنسان الذي فضله الله بالعقل عن باقي مخلوقاته؟
هذا الأب بقرار تخليه عن ابنه لم يسئ فقط للطفل بل ألحق العار بالأبوة وجل الروابط الإنسانية. لكن، وللأسف، ليس هذا الشخص المثال السيء الوحيد للآباء.
ورغم أن الغالبية العظمى من الآباء لا يسلكون طريق التخلي عن أبنائهم ولا يتنصلون من مسؤولياتهم تجاه من أنجبوهم، إلا أن هنالك من الآباء -مثلما هناك من الأمهات- من يتخلى عن ابنه أو يعيش معه دون الإيفاء بواجباته ومسؤولياته لا المادية ولا المعنوية ويكون حضوره مثل غيابه وأحيانا الأخير أفضل. وهناك من هم أكثر قسوة وتعنتا ونكرانا لإنسانيتهم ممن يختارون اليتم لأبنائهم رغم وجودهم على قيد الحياة.