خلال شهر نوفمبر من سنة 2014 وفي مساء هادئ غادرت عايدة أكوتجن شقتها في مدينة إزمير الساحلية التركية وهربت من أجل إنقاذ حياتها، لكنها لم تذهب بعيدا. وكان زوجها السابق أوغور بويناك قد طعنها في ساقها بسكين المطبخ.
ولما كان يطاردها وهي تحاول الهرب عبر السلالم صرخت سيدة الأعمال الناجحة والأم البالغة من العمر 38 عاما طالبة النجدة. لكنها كانت تصرخ بلا جدوى، إذ أغلق الجيران أبوابهم أمام المرأة المجروحة وصموا آذانهم عن صراخها وأغلقوا أعينهم عن تلك السكين التي غرسها بويناك في جسم زوجته في طعنة مميتة. سقطت عايدة عند منتصف السلم ولم تنهض أبدا. نزفت حتى الموت. قالت أختها الكبرى نازلي أكوتجن وهي تمسح دموعها “كانت أجمل من أن تعيش في هذا العالم”.
حكاية عايدة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في المجتمع التركي. فكثيرا ما تتصدر عناوين الأخبار روايات قاتمة عن العنف المسلط ضد النساء في البيوت وفي الشارع وفي وسائل النقل العامة.
ومن هذه الجرائم حادثة طالبة ذات العشرين عاما ضُربت بالعصا وأُحرقت وألقي بها في النهر من قبل سائق حافلة حاول اغتصابها. وقصة مذيعة الأخبار التي ضربها زوجها بقوة إلى درجة أنها أصبحت مشلولة، وحدث ذلك بعد وضعها مولودا بوقت قصير. وأيضا حكاية تلك المرأة التي أطلق عليها زوجها الرصاص في قاعة حلاقة وقتلها بعد أن أطلقت الشرطة سراحه وتحدّى أمرا بتقييد تحركاته.
عايدة هي واحدة من الآلاف من النساء التركيات اللائي قُتلن أو تعرضن إلى الاعتداء في السنوات الأخيرة. وعلى الأقل قُتلت حوالي 414 امرأة في تركيا بين سنتي 2015 و2016، وفي أغلب الحالات على يد الحبيب أو أفراد من العائلة، بعد أن كان الرقم 294 في سنة 2014 و237 في سنة 2013 استنادا إلى ما وثقته منظمة “سنوقف قتلة النساء”.
وتعمل هذه المنظمة الحقوقية على توثيق جرائم قتل النساء وتساعد ضحايا العنف وعائلاتهم. ويقول الناشطون والمحامون وناجيات من العنف إن الوضع يزداد سوءا في ظل التراجع في الحقوق وإجراءات الحماية للنساء بنسق ينذر بالخطر. وفي ظل حكم الرئيس طيب رجب أردوغان الذي يزداد تسلطا، تكمّم الحكومة أفواه المعارضة وتدفع نحو سياسات تلحق الضرر بالنساء. ويحدث هذا في بلد يروّج له سابقا على أنه نموذج لديمقراطية إسلامية مستقرة وعصرية.
حالة من الخوف
يقول الأتراك المناضلون من أجل المساواة بين الجنسين إن المحاكم كثيرا ما تنحاز ضد النساء. إذ بإمكان القضاة تقليص الأحكام ضد القتلة والمعتدين بناء على تقديرهم الخاص، فمثلا إذا قام رجل بتبرير عنفه بالادعاء أن زوجته كانت تخونه أو كانت تلبس بطريقة غير لائقة، أو إذا كان سلوكه جيدا في قاعة المحكمة.
وتناضل شقيقات عايدة ضد هذه المنظومة على مدى عامين كاملين. بالرغم من أن بويناك في السجن حاليا بتهمة قتل زوجته، إلا أنه يستعين بخدمات محام شهير لتبرئته مدّعيا الجنون وزاعما أن زوجته السابقة استفزته من خلال إقامتها علاقة غرامية مع غيره ورفضها ممارسة الجنس معه.
ويرفض المتحالفون مع عايدة مزاعم بويناك ويعتبرونها أكاذيب مضحكة، لكنهم يعلمون أنه يمكن إطلاق سراحه إذا أقرت المحكمة أنه كان في لحظة جنون زمن الجريمة، وبعد قضاء فترة قصيرة نسبيّا في العلاج النفسي يمكن أن يصبح حرا.
النائب العام في قضية عايدة إسماعيل ألتون، تولى النيابة عما يقل عن أربعين قضية لنساء تعرضن للضرب والاغتصاب والقتل على مدى السنوات الـ22 الماضية بوصفه محاميا. ألتون يقول وهو يهزّ رأسه “لا أظن أن نسبة جرائم القتل ستتقلص”.
وبحسب منظمات مثل “سنوقف قتلة النساء” فإن نسبة العنف ضد النساء في تزايد. لكن عدد النساء المعنّفات في تركيا ليس معروفا إذ لا تطلب الكثيرات من الضحايا المساعدة لأنهن لا يملكن القدرة المادية للاعتماد على أنفسهن أو لأنهن خائفات من الذهاب إلى الشرطة وتقديم تقرير.
ويعلق ألتون بالقول “حتى وإن ذهبن إلى الشرطة سترد الشرطة بأنها مسألة عائلية”. وفي سنة 2014 انتقدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان “نمطا من السلبية القضائية ردا على مزاعم عنف عائلي” في تركيا. ويقول ألتون إن الوضع يزداد سوءا.
ولدى تركيا عموما إجراءات صارمة لحماية النساء في شكل قوانين مكتوبة، لكن المشكلة تتمثل في أن الكثير من القوانين ليست مفعّلة. هذا بالرغم من بعض المكاسب القانونية البارزة، ففي سنة 2012 مثلا وسّعت تركيا في قانون العنف المنزلي ليشمل المرأة غير المتزوجة (في السابق كانت النساء المتزوجات فقط محميات من العنف المنزلي). كما أعطى هذا القانون السلطة لضباط الشرطة عند التعامل مع حالات العنف المنزلي، لكن دون تفعيل لا يقدم القانون حماية تذكر للنساء.
وفي الأشهر الأخيرة ازداد الوضع سوءا، ففي يناير الماضي خفضت وزارة العدل من المجموع المتحصل عليه في الامتحان للحصول على منصب قاض أو نائب عام. وفي إطار حالة الطوارئ المفروضة في أعقاب المحاولة الانقلابية في يوليو الماضي طردت تركيا وسجنت قرابة أربعة آلاف قاض ونائب عام، وتم تعويضهم بقضاة لا يملكون الخبرة تم اختيارهم غالبا على أساس ولائهم لأردوغان وحزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية. ومثلما يفسر سونر جاغابتاي، مدير برنامج البحث التركي في معهد واشنطن بالقول “يستعمل أردوغان عمليات التطهير ما بعد الانقلاب لتسييس القضاء”.
عمليات التطهير القضائي هي جزء من التحول إلى نظام تسلطي نبّه إليه منتقدو الحكومة التركية لسنوات، وازداد كثافة منذ المحاولة الانقلابية في يوليو. وزيادة على ذلك اقترن هذا التحول بتصاعد خطاب المحافظين دينيّا، إذ وبخ أردوغان منع الحمل باعتباره خيانة، محرّضا النساء على إنجاب ثلاثة أطفال أو أكثر.
ويعارض الولادات بالعمليات القيصرية معارضة شديدة ومثّل المرأة العاملة على أنها “نصف إنسان” لأنها “ترفض الأمومة وتتخلى عن العناية بالمنزل”. وفي سنة 2014، وفي لحظة جديرة بالملاحظة بشكل خاص صدم نائب رئيس الوزراء آنذاك بولنت آرينك الأتراك عندما ادعى أن على النساء عدم الضحك أمام الناس لأن ذلك غير لائق. وردا على ذلك نشرت نساء كثيرات صورا لهن على مواقع التواصل الاجتماعي وهن يضحكن في وجه الحكومة التركية.
وفي نوفمبر 2016 اقترح حزب العدالة والتنمية مشروع قانون خلافي يعفو عن مغتصبي الأطفال المدانين شريطة زواجهم بضحاياهم ما أثار فزع منظمات حقوق الإنسان. وخرج الآلاف من الأتراك إلى الشوارع للاحتجاج على مشروع القانون ممّا دفع حزب العدالة والتنمية إلى سحبه.
النضال ضد هذه السياسات
في السادس عشر من أبريل صوت الأتراك في استفتاء منح أردوغان بفارق ضئيل المزيد من السلطة كرئيس، أردوغان الذي صرح بأن النساء كائنات أقل شأنا من الرجال. وفي ظل عدم احتمال حدوث تغيير في القيادة يقول الأتراك الموجودون في الصفوف الأمامية للنضال من أجل حقوق المرأة إن الطريق إلى الأمام سيكون أصعب بكثير.
وبالنسبة إلى الكثير من النساء في تركيا التراجع ليس خيارا مطروحا. وفاة عايدة مثلا دفعت نساء مثل أختها إلى النضال الفاعل إذ تعتقد نازلي أن موقف الحكومة الخلافي بخصوص حقوق المرأة لا يؤدي إلا إلى التشجيع على العنف ضد المرأة، وذلك هو السبب بالضبط الذي جعلها تناضل.
“لدينا مقولة في تركيا: النار لا تحرق إلا حيث سقطت”، هكذا قالت نازلي لتفسر كيف أن الناس غالبا لا يهتمون إلا بالأشياء التي شهدوها أو جربوها بأنفسهم. وبالمثل علقت نيدا أكوتجن، الأخت الصغرى لعايدة بقولها “كنا نرى كل هذه الأشياء على شاشة التلفزيون وكنا نشعر بالأسى للضحايا لكننا ندير ظهورنا ونواصل عيش حياتنا. وبعد قتل عايدة بدأنا نرى أن الأمر جلل. كان يحدث كل يوم”.
وتشارك الأخوات في مسيرات واحتجاجات حقوق المرأة. وتحضر نازلي جلسات المحكمة لنساء أخريات معنّفات أو مقتولات، وهي تذهب لتمسك بأيديهن من أجل عايدة. لن تنسى نازلي آخر حوار مع أختها وكان حول مربى التفاح والبرتقال المفضل لدى عايدة.
أعدت نازلي كمية كبيرة من المربى لكنها كانت ساخنة جدا لتأخذها إلى البيت فقالت عايدة إنها ستأتي لتأخذها في الصباح. لكنها ماتت فجرا. ووزعت نازلي علب المربى في جنازة أختها.
وتصب نازلي حزنها في كتاب عن حياة عايدة ووفاتها وتنوي التبرع بكل عائداته إلى المنظمات التي تساعد النساء مثل أختها. وتقول وهي تبتسم وتذرف الدموع إن عنوان كتابها هو “مربى التفاح والمندرين”.