سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ، ثمانين حولا لا أبا لك يسأم يقول الشاعر زهير بن ابي سلمى في هذا البيت ، ان الملل اصابه من امتداد العمر به حتى بلغ الثمانين عاما ، سئم من تواتر الايام والليالي عليه ، وربما بدأ هذا الشاعر الجاهلي في عامه الثمانين يدرك ان للحياة بعدا آخر غير اقتناص الملذات (المباحة منها وغير المباحه ) ، وأن وراء هذه الرحلة الارضية هدفا ابلغ واكبر من مجرد الاكل والشرب والتناسل والتنازع على الاصفر والاحمر . الا ان العديد من اترابه ممن وصلوا الى محطة الثمانين ربما لا يسيرون بالضرورة على رأيه ومنهجه . فكم ممن عاش حياة الترف وذاق حلاوة السلطة والجاه ، ولم يجد حرجا في الولوغ في المال العام ، حتى اذا بلغ الثمانين اطمأن الى توزيع تركته على ابنائه واحفاده وتوريثهم ذات المناصب التي تولاها هو في شبابه ، وسعدت نفسه لأن (جين) الفساد قد تمكّن من دماء عقبه فرقد على فراش الشيخوخة والعجز قرير العين . آخر عشق السياسة منذ نعومة اظفاره ، واختار الزعامة والرياسة هدفا وغاية ، تزعم اهم حزب معارض في بلاده ، بقي يناور ويحاور في الساحة السياسيه مع بقية الفرقاء ، حتى اصاب الوهن والضعف والانقسام وطنه ، توالت الشهور والاعوام وتوالت معها المصائب على بلاده ، ومع ذلك لم يراجع مواقفه ،ولم يشعر بقدر من المسؤولية عما حدث ، لم يفكر في التنحي وضخ دماء جديدة في حزبه ، لم يؤمن بقيادات شابة قد تنقذ بلده من مؤامرات عديدة تحاك ضده ، ولربما كان آخر همه انقاذ بلاده ، حتى اذا بلغ الثمانين شمر عن ساعد الجد واستجمع ما تبقى في عروقه الواهنة من طاقة ومضى على سيرته الاولى ، لم يتزحزح من مكانه ليسلك طريقا اخر في الحياة بل بقي واقفا في مكانه بالصدارة وكأنه ثروة قومية لا غنى لبلده وحزبه عن خبرته وعصارة فكره ، واخيرا وبلا مقدمات رقد رقدته الاخيرة ولما يقض بعد وطره من السياسة . كان دوما يظهر على الشاشة الصغيرة كمحلل سياسي وصحفي ، صديق لكل الزعماء الذين تواتروا على حكم بلاده ، يعد نفسه من النخبة ، يؤلف الكتب في نقد الحروب والسياسات ، يختلق لقاءات مع زعماء ربما استطاع باحسن الاحوال ان يحظى بمصافحة عابرة معهم اثناء زيارات رسميه ، عندما بلغ الثمانين ، كان شاهدا على تحول مفاجئ في بلده ، لكنه لم يسخر قلمه لنقد الواقع الجديد نقدا موضوعيا ، بل بقي حتى الرمق الاخير يسوغ للقمع والاقصاء وشيطنة الآخر ، لم يلتفت مرة واحده وراء ظهره ليشاهد تراكم السنوات الطوال ، فلربما ادرك بان رحلة العمر كان فيها حضور الباطل اكثر بكثير من حضور الحق . هؤلاء الثمانيون موجودون في كل البلدان وفي كل العصور والازمان ، فها هو الرجل صاحب الدماء الزرقاء التي يحسبها تجري في عروقه دون غيره ، سليل القصور والعروش الملكيه يقف على نافذة برجه العاجي ، يشاهد العالم بمنظار الشمال المتحضر في مقابل الجنوب المتخلف الهمجي ، لا يرى في المهاجرين الآسيويين الى بلاده سوى حثالة اضطر الى استقبالهم ليسدوا ثغرة كبيرة في جسم القارة العجوز التي انهكتها حربان عالميتان اهلكتا الحرث والنسل . حتى اذا بلغ الثمانين، سلك مسلكا اكثر توحشا ، بدل ان يفكر في تبني قيم الاخوة الانسانيه ، فانضم بفكره وبدعمه الى عتاة المتكبرين في الارض، اصحاب الشركات العابرة للقارات ، اصحاب الفلسفة الكونية الذين يريدون الارض لانفسهم ولجنسهم فقط ، الذين يختلقون الامراض والآفات ويدسونها في الغذاء والدواء يهدفون من وراء ذلك تقليص اعداد من يعتبرونهم دخلاء على هذا الكوكب ، فكان صاحبنا الثمانيني ممن تمنى على الملأ ان يأتي فيروس قاتل يدمر نسل معظم هؤلاء عديمي الفائده. زبدة الكلام ، لا يصلح آخر العمر الا اذا صلح اوله ، هذا في غالب الاحيان ، فمن شبّ على شيء شاب عليه . وفي الختام ، ارفع القبعه تحية واحتراما لكل ثمانيني وصل الى هذه المحطة وما زال قادرا على العطاء الفكري والاكاديمي الذي من شأنه ان يعلي قيم الحق والجمال في عالمه ، تحية الى كل ثمانيني ما زال يعمل على استكمال لحن موسيقي راقٍ ، ومن لا زالت في جعبته قصيدة لم تكتمل او رواية يبحث لها عن خاتمه ، او يضع اللمسات الاخيرة على تفسير ميسر للقران الكريم ، او يسخر امواله لانقاذ ارواح بريئة اذاقتها الحروب والنزاعات مرارة اليتم والتشرد . لمثل هذا فليعمل العاملون .