يقول محيى الدين بن عربى «فى المرأة يكتمل ظهور الحقيقة» ويا لها من عبارة لذلك الشاعر القطب المتصوف تحدد بدقة أنه ما من حياة ولا حقيقة ولا خيال ولا شعر ولا نغم من دون المرأة، وفى بحيرة عينى المرأة وحدها يرى الرجل صورته، وجوده، يوقن أنه حى، وأن لحياته أهمية، ثم يدرك أن الحب الذى يلد الأكوان بعد الأكوان، والسحاب بعد السحاب، والشموس بعد الشموس- هو رسالة الوجود ورقته وعطره التى تجمع أطرافه إلى بعضها. عن ذلك الشاعر المتصوف وحياته كتب المؤلف السعودى الشاب محمد حسن علوان روايته البديعة «موت صغير» التى فازت بجائزة البوكر العربية هذا العام من بين ١٨٦ عملًا.
ويستشهد المؤلف بأقوال ابن عربى فى روايته ونظرته إلى المرأة ومنها قوله «كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه». وقد عاش محيى الدين بن عربى أواخر القرن الثانى عشر وتوفى أواسط القرن الثالث عشر ميلاديا فى دمشق ودفن فى جبل قاسيون. وترك العديد من الكتب وتفاسير القرآن الكريم وديوانا هو «ترجمان الأشواق» جعله للتغزل فى محبوبته «نظام» بنت الشيخ أبى شجاع. يصل ابن عربى مبكرا فى القرن الثالث عشر إلى أن «الحقيقة تكتمل بظهور المرأة»، وأن الحقيقة من دون المرأة تصبح مشوهة وناقصة. وكان ابن رشد فى ذلك الوقت أيضا يدعو إلى أن الحكم والحرب وأفعال الشجاعة كلها من قدرات المرأة واستطاعتها، لكننا على مدى قرون طويلة من الوخم الفكرى فقدنا تلك النظرة إلى المرأة، بدلا من أن نطورها، وأضعناها بدلا من أن نرتكز إليها وننطلق منها إلى الأمام.
وأصبحت المرأة فى معظم شوارعنا «عورة» يجب أن نداريها ونحجبها ونلزمها البيت ولا نسمع حتى صوتها! بذلك أهدرنا الحقيقة، وألحقنا الضرر بعقولنا ووجداننا حين ألحقناه بعقل المرأة ووجدانها، وعندما قمنا بطعن نصفنا المؤنث لم يبق لنا سوى أن نجر النصف الآخر نازفا جريحا. وكل من يؤذى المرأة فى حريتها إنما يؤذى نفسه أولا وقبل كل شىء، ومن يؤذ المرأة فى كرامتها فإنما يؤذى كرامته. ضاعت نظرة ابن عربى، وابن رشد، وغيرهما، وتم اختصار روح المرأة وعقلها وذكائها فى جزء صغير وحيد يسمى «أعز ما تملك»! ونحن لا نقول إذا ما أصيبت فتاة بالجنون إنها فقدت «أعز ما تملك»! هذا لأن العقل عندنا ليس أعز ما تملك المرأة، أما إذا جن الرجل فإننا نتأسف ونتحسر على عقله قائلين: «خسارة الرجل جن»! ضاعت نظرة الفلاسفة الأوائل الذين قدروا أن العقل والقلب هما أعز ما يملك الإنسان سواء أكان امرأة أم رجلا. لقد أصبحنا فى أمس الحاجة لتغيير نظرتنا إلى المرأة، بل أمست المرأة ذاتها فى أمس الحاجة لتغيير نظرتها إلى نفسها وهى التى تعد نفسها فى حالات كثيرة «ست بيت» أهم فضائلها أنها «لا ترفع صوتها على زوجها». ولتغيير تلك النظرة، ولإدراك أن الحقيقة تكتمل بظهور المرأة، ومعها، وبجوارها، ينبغى أن نبذل الكثير من الجهد لتعديل برامج التربية والتعليم. وقد كان للكاتب الروسى العظيم أنطون تشيخوف رأى خاص بكيفية تغيير وضع المرأة بأنه ينطلق من ضرورة تربيتها بصورة مختلفة، وقد صاغ رأيه هذا فى قصة له بعنوان: «أريادنا» ويقول فيها على لسان إحدى الشخصيات: «ينبغى أن تتربى الفتيات ويدرسن مع الفتيان. ينبغى أن يكون هؤلاء وأولاء معا دائما. ينبغى تربية المرأة بطريقة تستطيع معها، كالرجل، أن تدرك خطأها وإلا فسوف تعتقد أنها على حق دائما. قل للفتاة منذ الطفولة إن الرجل ليس قبل كل شىء فارسا ولا خطيبا أو زوجا، بل قريبها المتساوى معها فى كل شىء.
علمها أن تفكر وتعمم منطقيا ولا تقل لها إن وزن دماغها أقل من دماغ الرجل، ومن ثم فليس فى قدرتها أن تهتم بالعلوم والفنون والشئون الثقافية.. ينبغى أيضا تنحية التذرع بفسيولوجيتها وبحملها وولادتها، نظرا لأن المرأة لا تلد كل شهر، وثانيا ليس كل النساء يلدن، وثالثا فإن المرأة القروية العادية تعمل فى الحقل حتى عشية ولادة طفلها. كما ينبغى أن تكون هناك مساواة تامة فى الحقوق فى الحياة، فإذا كان الرجل يقدم الكرسى للسيدة أو يناولها منديلها الذى سقط منها، فلتعامله المرأة هى أيضا بالطريقة نفسها». كتب تشيخوف كلماته هذه عام ١٨٩٥ وانقضى عليها أكثر من قرن ومازلنا نرى المرأة بصفتها ملحقا بالرجل، إما أن يكون ملحقا جميلا ممتعا، أو ملحقا قادرا على العمل الخشن طوال النهار فى البيت، أو ملحقا كأداة للإنجاب! لكنها فى كل الأحوال ليست زميلة روح ورحلة وحياة.
هذا يعنى أننا مازلنا نقوم بتربية البنات بشكل غير صحيح، وأن مدارسنا مازالت تفصل البنات على الأولاد، ومن الطبيعى حينئذ أن تتحول الفتاة إلى كائن غريب، تحمى طوال الوقت «أعز ما تملك» فى الشارع والبيت والعمل، فلا يتبقى لها وقت للدفاع عن عقلها أو شعورها أو شىء آخر تعتز به كشهادة علمية، أو قيمة نفسية إنسانية، أو اختراع علمى، أو كفاح برلمانى، أو مشروع تتولاه لمحو أمية أطفال الحى. يقول محيى الدين ابن عربى مخاطبا كلًا منا «أنت غمامة على شمسك، فاعرف نفسك»! ونحن فى أمس الحاجة إلى أن نعرف أننا لن نعرف شيئا من دون المرأة، وأنه من دونها «لن يكتمل ظهور الحقيقة»، فلننزع الغمامة عن عقولنا وعيوننا ولنر بانبهار وحب ذلك الكائن البديع الذى يمضى بجوارنا وعلى وقع خطواته يصبح للحياة مغزى وطعم وروح، وبفضله تولد كل القصائد والأغانى وأهازيج العشق العذبة.