بعيدا عن إكراهات السياسة، وإملاءات المنظمات المالية العالمية، وعن التوظيفات الإيديولوجية، والاستعمالات الخاطئة، تبقى قضية المرأة ومشاركتها السياسية في الحياة العامة، ومدى تأثيرها وتأثرها بالحراك السياسي والاجتماعي في الوطن العربي عامة وفي تونس خاصة، محور اهتمام ورصد من طرف جميع القوى بيمينها ويسارها. ثورة 17ديسمبر/14جانفي، رسمت الحدّ الفاصل بين مسألة تحرّر المرأة وتمكينها من ممارسة دورها في الحراك والنضال الثوري، وبين تمكّنها الفعلي من اختراق مواقع القرار وقدرتها على المشاركة في صناعة السياسات.
الحديث اليوم عن حرية المرأة، وضرورة الحفاظ على مكتسباتها التاريخية لم يعد موضوعا بذاته. لقد حلّت قضايا جديدة، وخطابات مختلفة تتجاوز بكثير تلك الإشكاليات القديمة. كيفية الدخول في تفاصيل الفعل، ومنهجية معالجة دقائق المعطيات، أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، ما هي المهمّات والأدوار، وآليّات تنزيلها على أرض الواقع.
في هذه المحاولة البسيطة، أنطلق من مبدأ واجب التعدّد وحقّ الاختلاف، والاعتقاد في ضرورة مراكمة الأفكار والتجارب، واحترام الخلاصات والآراء التي توصّل إليها الآخرون. المدخل لهذا البحث، الإيمان الجازم بانّ الطريق إلى الحقيقة تتعدّد بتعدّد السالكين. لن أناقش ما توصّل إليه بعض النسويين والنسويات، من علماء اجتماع وانثروبولوجيين، في أنّ الجسد قيمة ينتجها المجتمع، وانّ الفئة المهيمنة هي التي تفرض المعنى وتحدّد خصائص "الجسد الشرعي"، وانّ الهيمنة الذكورية واقع ساهمت في تكريسه الأنثى باستبطانها اللاّشعوري للغة الجسد، وتجسيدها لتقنيات الإغراء والخضوع. كذلك لن أناقش فكرة الفيلسوف "كاستورياديس" في أنّ الفرد المغترب عن ذاته وعن جسده لا يمكن أن يساهم في تحرّر المجتمع، ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية في مجتمع أفراده يعيشون التبعية والاغتراب.
هذا المقال يطرح إشكالية الدور المستقبلي للمرأة، دور متّصل بعملية النهوض والتقدّم وتحقيق التنمية السياسية والاجتماعية، كيف يمكن توضيح معالم حالة جديدة تتشكّل مع مسارات البناء والتأسيس. ماذا يواجه المرأة العربية عموما والمرأة التونسية على وجه الخصوص، وما هي المشاغل والتحدّيات التي تحيط بهذا الجيل الذي تتجاذبه قوى الهيمنة بالداخل والخارج؟
في هذه المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها تونس، الاتجاه التأسيسي يقتضي أولا: توسيع دائرة النقاش حول المشاركة الفاعلة والشاملة للمرأة في الشأن العام، الانتقال من موضوع حرية المرأة ودورها في ترسيخ حقوقها المدنية، إلى موضوع المشاركة الحقيقية والفاعلة في الشأن السياسي (البرلمان والحكومة، ومؤسّسات الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني).
ثانيا: فتح الحوارات حول آليات التحرّر الفردي والجماعي من هيمنة الآخر، وكيفية التصدّي لمختلف أشكال التمييز(السلبي والإيجابي) التي تفرضها مؤسّسات المجتمع المُعَوْلم بمختلف تمظهراتها، ما هي السبل للتحرّر من "العنف الرمزي" و"الجسد الشرعي" الذي يفرضه النظام العالمي الجديد. إذ في زمن العولمة والليبرالية الجديدة، قوى الهيمنة العالمية لا تفرض فقط على الأنظمة التابعة، نماذجها الاقتصادية والسياسية باستعمال سلاح المال وقوة الجنود، بل هي تستعمل "العنف الرمزي" وتتلاعب بالصورة والمعني وتشكّل الوعي الجمعي وتصنّع القيم وتروّجها عبر شبكات التوزيع الجديدة. المرأة هي الأكثر تعرّضا للعنف الناعم والمقنّع، هيمنة ذكورية من جهة، تعمل على تطبيعها مؤسّسات المجتمع (عبر أدلجة الديني والسياسي) لتتحوّل إلى أمرٍ واقع، وهيمنة قوى رأس المال العالمي التي تعمل على تكريسها دور الأزياء الراقية، وماركات الملابس العالمية، ساعية إلى تنميط الذوق وعولمة النماذج.
طبيعة الهيمنة تختلف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن بقية المجتمعات الغربية، فالقوى المهيمنة تحاول فرض قيمها وثقافتها بالقوّة، أو بالترويج الدعائي لأفكارها ومفاهيمها ورؤاها للعالم وللتاريخ وللمجتمعات، هي تسعى إلى بناء نماذج مصغّرة لمجتمع المحتلّ تاريخيا، والمهيمن حضاريا. هو في العراق مجتمع الاغتصاب الذي ستكون مهمته الأساسية تمكين قوة الاحتلال من إمكانيات ووسائل السيطرة على المجتمع العربي (لما تمثّله العراق من رمزية ثقافية ودينية وتاريخية بالنسبة للعرب والمسلمين). مجتمع النساء الشرقيات (مجتمع حريم هارون الرشيد) العربيات، والمسلمات. هو المجتمع الذي يتراقص في مرآة الغزاة الأمريكان للعراق، ومن قبلهم المستعمر الفرنسي في الجزائر وتونس. بواسطة القوة والاغتصاب يقوم الجندي الأمريكي بتحرير المرأة المسلمة في العراق من عقدة الشعور بالعار. وهكذا يعيد الاستعمار في ثوبه الجديد، استعمال قوة الاغتصاب المادي والمعنوي لتحرير المرأة العربية من عقدة ضعفها المميتة "الشرف"، التي هي في حقيقة الأمر ليست سوى عقدة ضعف الرجل الغربي وريث "الديمقراطية" و"الحرية" ومُلْهِم أفكار الحركات النسوية.
هو في تونس مجتمع هشاشة القيم واختلال المعايير، الذي أسّست له القوى المهيمنة الداخلية والخارجية منذ عهد الجمهورية الفرنسية التي علّمت مواطنيها أنّ الاستعمار رسالة حضارية مشرّفة، وأنّ قوة الاغتصاب (المادي أو الرمزي) تمكّن من تفكيك هياكل المجتمع وتسهّل السيطرة عليه. ورثت الدولة الحديثة في تونس عن المستعمر الرؤية للعالم وللأشياء، وتبنت نفس الخطاب في ضرورة العمل من أجل الالتحاق بالأمم الراقية بعصرنة المجتمع وتحرير المرأة من عقدة الشرف والعار والحياء. عملت الدولة الوطنية في نسختيها على تحقيق ما عجز الاستعمار المباشر عن القيام به. استعملت الإعلام المرئي والسمعي لتحرير المجتمع من قيمه وأخلاقه "الكابحة" لتيّار الحداثة. وظّفت الفنون التشكيلية والدرامية (السينما والمسرح والمسلسلات)، والبرامج الإذاعية والتلفزية (ستار أكاديمي، وعندي ما نقلّك...)، انتشرت ثقافة العنف اللّفظي (استعمال كلمات توحي بالجنس وجسد المرأة..) في مختلف مؤسّسات المجتمع (الأسرة والمدرسة والشارع...). وبرزت ظاهرة الأجساد العارية في سينما الواقع وسينما التمثيل، وليست حادثة أمينة وأخواتها، وقصّة جهاد النكاح، وإثارة مسألة النقاب والحجاب.. خارجة عن سياقات "الاغتصاب الرمزي" لجسد المرأة العربية المسلمة من أجل تحريرها من التمييز والعنف والتخلّف.
الرجل الغربي المعاصر(الأمريكي والألماني والفرنسي..) يعبر المحيط، في ثوب المحتلّ والمغتصب والزوج، يخترق ثقافتنا في مغامرة جديدة، حاملا الديمقراطية والحرية كهدية لمجتمعاتنا المتخلّفة. يصمّم لمجتمع نساء نموذجي تقوم هندسته المعمارية على أنقاض ما تدرّب عليه أسلافه من انتهاك لقيم المجتمع.
الغرب يغزو مجتمعاتنا، ليحرّرنا من ثقافة مجتمعية غير مقبولة من وجهة نظره، ليضع حدّا لمنظومة من القيم والمفاهيم والرؤى المتخلّفة. يستعمل قوّة المجتمع المدني "الحداثي" من أجل مقاومة التراث "الرجعي" المنحطّ، الذي يثير الفزع عند التقدّميين والليبراليين.
السؤال الملحّ اليوم الذي يطرح نفسه على قوى التغيير في مرحلة إعادة البناء والتأسيس، كيف الخروج من كمّاشة الهيمنة الذكورية بفكّيها المحلّي والخارجي؟ أو لنقل كيف تتجنّب مجتمعاتنا العربية-الإسلامية الوقوع في فخّ العولمة والليبرالية الجديدة، بدون السقوط في الحقول الملغومة للفكر الديني المؤدلج؟