منذ أن لمستها وأشعلت طرفها بأناقة المكتشف المندهش وأنا أضمر نيّة مبيتة لا جدال فيها تخبرني أنني لن أكون يوما أسيرة عبوديتها.. كنت صغيرة في أول زهو الشباب والمراهقة.. يومَ كان التمرد يتلامع من حدقات العيون فيبدو أكثر إغراء ونشوة من فكرة الحياة نفسها.. كانت المغامرة وحب الاكتشاف تشعل الفضول في كريات الدم.. وتفتح المسام والرئات على المزيد والمزيد..
وإذ وجدت من سبقتني من الصديقات إلى السير في هذا الطريق.. فقد رحنا نجربها معا.. ونتبادل أحاديثنا تحت غيوم دخانها.. ولا ندخر وسعا بالاعتراف أمامها بكل الأسرار التي لا يعرفها أقرب الناس.. حتى صارت تلك العادة صديقتنا الثالثة التي لا تفارقنا.. فلا غنى لنا عنها.. وكنا نحسبها الأكثر إخلاصا من كل الصديقات..
ويمر الزمن دون أن أعي.. يتكاثر المدخنون حولي وتمتلئ حياتي دخانا وأحاديث.. ترافقني عمرا.. لا تقف أمامها حدود أو حواجز.. تختلف الأماكن والمدن ويرحل مقربون ويظهر آخرون.. تتدهور علاقات وتنشأ جديدة.. ووحدها باقية لا تفارق الأصابع والبال.. رائحتها تغطي كل شيء.. الأرضيات والسجاد والستائر والحيطان والملابس والأنفاس والجسد والعقل والروح.. رفيقة درب في السفر والمكوث والصحو والمنام..
بيد أن الأسوأ في كل ذلك أن أحس فجأة بأنها رفيقة خائنة!.. تطعن المخلص إليها في صميم عافيته وقلبه.. تواصل غدرها بشراهة المنتصر اللئيم.. كلنا -نحن معشر المدخنين- نعلم هذا.. ولكن هيهات منها الفرار!.. فهي تستبدّ بالبدن والعقل والروح مثل جنية معشوقة.. أو مثل بطل فاوست الذي باع روحه للشيطان..
وما إن نصغي لنداء الآخر وهو يردد بكسل وتثاؤب ولامبالاة “إنها مضرة.. فلماذا لا تقلعون عنها؟”.. حتى تتطاير المسامات شررا وعصبية وهجوما واستقتالا في الدفاع عنها.. وكأنها مذهب أو دين أو عقيدة من الصعب بل من المستحيل الخوض في تفاصيل اعتناقها..
والأسوأ أيضا.. أن يفاجِئنا غدرها.. فنرى سكينها يلمع بين جوانحنا ونحن على نقالة المستشفى تحت أيدي الأطباء وبين يدي خالقنا بين حياة وموت ونظرات تشبه نظرات معلمة تضبطنا بجرم الكسل والتقاعس.. ويأتي العقاب الذي لا جدال فيه “الإقلاع عنها أو الموت”.. فنتركها مضطرين آسفين متحسرين نادمين حاقدين على الطب وعلى أنفسنا وأجسامنا.. وقد نبكي بحسرة من حرموه حب عمره!.. ونناجي طيفها متوسلين “ليتهم يفهمون ما هو العشق!”..
كل القصص كانت أمامي.. وكل أصدقائي المقلعين والتاركين والراحلين.. المجبرين والمختارين.. كلهم كانوا نصب عينيّ.. ومعهم الحلول ووسائل الإقلاع عنها.. الإقلاع إلى أعلى سماء من حرية وحياة أجمل دون دكتاتوريتها وعبوديتها.. فأنفرد بنفسي لاُحدثها بحنو وتطمين وأمل “ألم يحن وقت القرار؟.. ألم أكن منذ أول سيجارة جازمة أنني لن أكون أسيرة عالمها المظلم المخيف؟.. ألم تمر معها السنوات والعقود؟.. أما آن الأوان؟.. ليس الآن؟.. فمتى إذن؟”..
وأجد صوتي أعلى من صوتها وإصراري أشد.. وما إن أقرر حتى أبتدئ رحلة البحث عن بدائل ومحفزات وأسباب ودوافع ووسائل عملية تطبيقية.. فالقرار وحده لن يكفي وقد لا يكفي الإصرار وحده ولا التشجيع والترهيب وحده.. المهم هو أن يجد القرار ضالته في التطبيق.. ومثلما بدأت رحلتي معها بسيجارة واحدة أنهيت تلك الرحلة الطويلة بسيجارة.. لا تسألوني كيف.. فلكلٍ منا أسلوبه.. لكن أرجوكم أن تحاولوا..
صباحكم حرية وعافية..