أصبح إهدار الطعام أثناء شهر رمضان سمة من سمات أغلب الأسر العربية، فمهما كان دخل البعض متوسطا أو محدودا، فإن الجميع يشترك في صفات اللهفة والإسراف والتبذير، وينتهي الأمر بحوالي ثلث الطعام المنتج للاستهلاك البشري إلى مكبات النفايات.وتسجل بعض مجتمعات الخليج مستويات إهدار عالية للأطعمة بسبب العادات والتقاليد الاجتماعية التي تتحكم في أنماط الاستهلاك، ففي المناسبات الاجتماعية المختلفة، وحتى دون مناسبات، تقام الولائم وتعرض كميات ضخمة من الأطعمة والمشروبات عملا بالمثل الشائع “يزيد ولا ينقص”، الأمر الذي دفع السلطات في الإمارات إلى تأسيس جمعية معنية بجمع بقايا الطعام وإعادة تغليفها وتقديما بطريقة لائقة للمحتاجين في مسعى ذكي يمنع رمي فائض الطعام، فضلا عن مساعدة المعوزين.وعلى الرغم من أن الطعام أثمن من أن يلقى في القمامة، وخاصة في ظل ارتفاع أسعار الغذاء، وتحوّل رغيف الخبز إلى مرادف للحياة بالنسبة للملايين من الناس من كل الأعمار في االدول الفقيرة، فإن النمط الاستهلاكي لم يعد يقوم في مجتمعاتنا العربية سوى على التبذير الذي ينهك ميزانية الأسر، ويدخلها في ضائقات مالية تقود أحيانا إلى زعزعة استقرارها، وتدخل أفرادها في دوامة من المشاكل المادية التي تعكر صفو حياتهم.الأسرة شبيهة بالمؤسسة المالية، وتحتاج إلى من يدير مواردها ويتدبر شؤونها، ويحدد الحاجيات الضرورية لأفرادها من أجل تجنيبها الأزمات المالية التي قد تعصف بها وتهدد كيانها.والحقيقة أن الزوجين مسؤولان كل من موقعه على إدارة اقتصاد منزلهما بطريقة رشيدة وحكيمة، عن طريق التخطيط المالي والإنفاقي، لجعل بيتهما مكانا يستطاب فيه العيش، ومريحا صحيا ونفسيا لهما ولأبنائهما.وتتمثل أهم عوامل الاستقرار في الحياة الأسرية في تبسيط الأمور المعيشية والتسوق بعقلانية، والاستغناء عن كل ما هو غير أساسي وغير ضروري في الحياة.ويمكن أحيانا لقدر ضئيل من المال أن يصنع فرقا كبيرا بالنسبة لأسلوب حياة بعض الأسر، ويساعدها على المضي إلى ما هو أبعد من الاحتياجات الأساسية، في حين تواجه عائلات أخرى صعوبات مالية تخنقها وتحول حياتها إلى جحيم لا يطاق.والمؤسف اليوم أن العديد من الأسر دخلت في دوامة القروض الاستهلاكية وأغرقت نفسها في الديون، ومثل هذا الأمر يجعلني أتساءل أين اختفت الصفات التي ارتبطت في الماضي بربات البيوت البارعات في تدبير شؤون منازلهن، ومهاراتهن الكبيرة في تعزيز القناعة في حياة ومعيشة أسرهن رغم العوز وقلة يد الحاجة.في الماضي كانت ربة المنزل قادرة على التكيف مع أقسى الشدائد المالية والظروف الاقتصادية الصعبة، وتفعل ما في وسعها من أجل اختيار الأفضل لها ولعائلتها، حتى تحافظ على المرح الطبيعي داخل أسرتها، بينما العديد من الأسر اليوم لديها كل شيء ومع ذلك تشعر بالبؤس.ولنا في قصة معاذة العنبرية التي رواها الجاحظ في كتابه “البخلاء” عبرة في فنون الاقتصاد، فمعاذة لم يهدأ لها بال إلا بعد أن وضعت جميع الأمور في مواضعها ووفتها غاية حُقوقها في كيفية التصرف في أجزاء خروف العيد الذي أهداه إليها ابن عمها، فالقرن صنعت منه خطافا ثبتته في سقف المنزل وعلقت فيه مؤونتها خوفا عليها من الفأر والحشرات، وأمّا المصران فصنعت منه أوتارا لمندفة القطن، وأما قحف الرأس وسائر العظام فبعد أن طبختها وارتفع دسمها استعملتها لإيقاد المصباح وللعصيدة وغير ذلك، وأما العظام فأوقدت بها النار، وأمّا البعر فعوضت به الحطب، والجلد صنعت منه جرابا، وأما الدم فدبغت به قدورها…ولكن بغض النظر عن أن البعض كان ينظر إلى قصة معاذة العنبرية على أنها نموذج لبخل المرأة والبعض الآخر يراها نموذجا لحسن التدبير، فإن السائد اليوم أن أغلب النساء أصبحن نموذجا للتبذير وإسراف المال، وسيطرت عليهن عقلية المنافسة مع الآخرين، التي حرمت الكثير من الأسر من أن تكون سعيدة بالنعم الكثيرة المتوفرة لديها.