كان يعاب على الزواج التقليدي أن الأزواج لا يجدون مساحات كافية ليتعرّفوا على بعضهم البعض، وليتدارسوا طبائعهم وميولاتهم وأحلامهم. إلا أن هذه الزيجات تنمو فيها مع الوقت عاطفة الحب، وتقودها نحو شاطئ الأمان الأسري. تغيرت الأحوال وانتشرت وسائل التواصل الحديثة مجسدة في منصات التواصل الاجتماعي، ما سهل عملية التواصل بين الجنسين.
ولعبت هذه الوسائل، مع عوامل أخرى أهمها خروج المرأة للدراسة والعمل والمشاركة في الحياة العامة، دورا هاما في التفاعل الإيجابي والمثمر بين الجنسين، في اتجاهات عدّة كالصداقة والزمالة والزواج.
سهولة التواصل وسرعته كان من المفروض أن تكونا مساهمتين في التقارب بين الجنسين حتى تحصل الألفة والودّ وهما بدايات العشق. ولكن الذي حصل أن العلاقات الإنسانية التي تقود إلى الزواج وتكوين أسرة، ورغم سهولة التواصل وإمكانية التوافق العاطفي، أصبحت تخضع لمقتضيات خارجة عن نطاق العاطفة، كالظروف الاجتماعية والوضع الاقتصادي، أي القدرة المادية على تأسيس أسرة.
قد يكفي مجرد الإعجاب لتنتهي العلاقة بزواج سريع، تدرس فيه كل الجوانب المتعلقة بـ”الشركة الاجتماعية” التي ستتأسس على شراكة مادية فعلية. لهذا التوجه ما يبرره اجتماعيا واقتصاديا. تطورت الحياة الاجتماعية للبشر وكثرت متطلباتها المادية.
ما كان ثانويا من الكماليات أصبح ضرورة الضرورات، كالتلفاز والهاتف والإنترنت والكمبيوتر والثلاجة وآلة التسخين والفرن وحتى السيارة أضحت ضرورة عائلية وخاصة في المدن الكبيرة.
والقائمة تطول في هذا الباب حتى أنه لا يمكننا حصرها أمام التطور الهائل الذي تشهده الساحة العالمية الاستهلاكية. فكل يوم يطالعنا الجديد المتجدد من مختلف المواد الاستهلاكية ذات الاستعمال الفردي أو العائلي.
العناية بالأطفال تستمر منذ الحمل وحتى ما بعد الدراسة. ولا ينقطع هذا الاهتمام إلا بالحصول على شغل. فالمرأة الحامل لا بد من متابعتها دوريا من طرف طبيب مختص، وفي كل مرة تتجدد التحاليل المخبرية والأدوية وطرق العلاج. يظن الزوجان أن الكابوس -المادي طبعا- أوشك على نهايته ولكن الأمر يزداد تعقيدا مع الولادة وما بعد الإنجاب بالنسبة إلى الأم والمولود معا. وتتواصل الرحلة مع الدراسة بمراحلها الثلاث؛ الإعدادي والثانوي والعالي.
إذن هي معركة يومية يخوضها الزوجان، اللذان كانا قد حسما اختيارات زواجهما على هذا الأساس مسبقا، دون انقطاع. وتذوي شيئا فشيئا عاطفة الحب التي تجمعهما والتي بدأت إعجابا ثم تطوّرت ولكن وفق حسابات العقل والحاجة.
إذا كانت عاطفة الحب بين الزوجين تشكو من هشاشة أصلا، فلا يمكنها أن تصمد أمام الضغوط اليومية الرهيبة التي تفرضها متطلبات الحياة العصرية. يتبخّر الحب وتعوضه “العشرة” وينسى الزوجان كل ما يربطهما من أحاسيس وعواطف، في خضم بحثهما الدؤوب عن استمرار الحياة.
الزواج بهذه الصيغة فقد المقوّمات النّفسية للعلاقات الإنسانية وأصبح مجرد “شراكة اجتماعية”. نتج عن فقدان العاطفة أو على الأقل اضمحلالها عدة مظاهر تشهدها الأسر الحديثة. فإذا حققت العائلات أهدافها المادية بعسر وتمتعت بملذات الحياة الاستهلاكية على اختلافها، فإنها فقدت مقومات التماسك الأسري من ودّ ومحبة وعشق متجدد. وهذا ما دفعها إلى التفكك. وأصبح الأطفال ضحية هذا اللهاث على المادة، فيربيهم الشارع بسلبياته.
عاطفة الوالدين إذا كانت صادقة ومتينة فإنها ستكون المرشد الأول للأطفال في حياتهم. فالأسر تنسخ عن بعضها البعض العادات والسلوكيات والعواطف الصادقة، كما ترث اللامبالاة والاستهتار والتحدي السلبي وسوء التصرف وعدم القدرة على بناء علاقات اجتماعية مثمرة.
التفكك الأسري وضياع العواطف في خضمّ البحث عن متطلبات العصر المادية كلها من التداعيات السلبية للعولمة والتطوّر التقني والعلمي. ولكن ما الذي يجب فعله للاندماج الفاعل في الحياة العصرية بمتطلباتها مع المحافظة على علاقات الحب بين الأزواج؟
يبدأ الإصلاح بمحاولة الموازنة بين الخصائص النفسية-العاطفية وبين “الشروط” المادية لتشييد أسرة متماسكة نفسيا، عند اللقاءات الأولى التي تسبق الزواج. ثم إيلاء العواطف درجة عالية من الاهتمام، ومحاولة تجديدها باستمرار باستغلال كماليات العصر ذاتها.
بهذا لن يضطر الزوجان إلى البحث عن حنان مفقود في أحضان أخرى غريبة عنهما. ولن يضطر الأطفال إلى التطبع بطباع الشارع السيئة. ويسود الوئام ويتعمق التلاقي والتفاهم. وتنقلب المفارقة بين الحب والمادة إلى معادلة طرفاها التوازن، فلا إفراط ولا تفريط. فقدنا في مرجعيتنا الحضارية حبنا العذري وبساطة عيشنا ورقة عواطفنا، لنحافظ على وجداننا حيا حتى ولو كان معلبا شأنه شأن البضائع التي نستهلكها يوميا. عواطفنا جزء مهم من إنسانيتنا ودونها لن نصنع جيلا بشريا بل سنصنع جيلا آليا باردا لا عواطف تغمره.