ياسمين عطية محامية تونسية تخطو خطواتها الأولى نحو التألق والنجاح، تمكنت يوم الأحد 2 فبراير من الحصول على جائزة الدورة 25 لمسابقة المرافعات في متحف تاريخ القرن العشرين بمدينة كاين الفرنسية، بمرافعة حول موضوع “جهاد النكاح “، حيث دافعت الأستاذة عن النساء التونسيات اللاتي تم تحويلهن إلى سوريا لممارسة جهاد النكاح، مشددة بالخصوص على ما اعتبرته بغاء مقنعا تُجبر المرأة على ممارسته لدى مشاركتها في ما يسمى بالحروب المقدسة.
وأشرفت وزيرة العدل الفرنسية كريستيان توبيرا، والتي ترأست هذه الدورة من المسابقة، على تسليم الجائزة الأولى لأحسن مرافعة لهذه الشابة التونسية، في حين أسندت المرتبة الثانية للمحامي «كافيت يورت» عن هيئة المحامين ببروكسال.
وهذا التفوق الذي حازته ياسمين عطية لا يرجع فقط إلى قيمة الموضوع والجدل الذي أثاره، بل أيضا إلى عمق الطرح وزاوية التناول التي من خلالها ولجت المحامية الصغيرة إلى عدة مفاهيم وإشكاليات متصلة ببعضها في تناسق أبهر الحضور. وهو ما يدفعنا لمحاولة التعمق والتعرف على تفاصيل شخصية ياسمين والعوامل التي ساهمت في تشكيلها.
تخرجت ياسمين عطية المتحصلة على الأستاذية في قانون الأعمال وعلى شهادة الدراسات المعمقة في القانون العام من جامعة العلوم الاجتماعية بمدينة تولوز، وهي تعمل منذ خمس سنوات في مجال المحاماة في تونس، وتشغل خطة أستاذة مساعدة في مادة حقوق الإنسان بكلية القانون والعلوم السياسية في تونس.
وقد قامت عطية بعديد التربصات في أكبر مكاتب محاماة تونس العاصمة، وقامت بتربص في شركة المراقبة المالية العالمية “أرنست أند يونغ” في العاصمة الفرنسية باريس، خاصة وأن اختصاصها هو القانون الجبائي، كما أنجزت رسالة الدكتوراه في هذا المجال وكان موضوعها “الانعكاسات الجبائية لاتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي”.
كل ذلك ساهم في تكوينها الثقافي وفي مجال اختصاصها وعمقته كل تلك التربصات التي قامت بها مما جعلها تكسب بعضا من خبرات المرافعات وفنونها خلال مدة عملها القصيرة.
لماذا جهاد النكاح؟
تبرر المحامية الشابة اختيارها لموضوع “جهاد النكاح” بالقول: “اخترت هذا الموضوع لأنه يشكل نوعا جديدا من الدعارة، تمارس من منطلق ذاتي تحت شعار مقدس، باسم دين الإسلام الذي هو ديني، وهذه الآفة تمس بشكل كبير المرأة التونسية التي تعتبر رائدة ومحمية قانونيا بالمقارنة مع المرأة في بلدان عربية أخرى”.
وتضيف عطية: “المرأة انخرطت في مشروع مجتمعي دخيل، لا يعتبر المرأة مواطنة بقدر ما يعتبرها موضوعا غير مهم، فالمرأة وفق ذاك المشروع تعتبر غنيمة حرب، عبدة ومملوكة لصاحبها الذي من حقه أن يدعها تعيش أو أن يقتلها”.
وقد أرادت ياسمين تبيان الخلط الواضح بين الديني والسياسي والاجتماعي في تفكير البعض، ذاك التفكير الذي يحاول تبرير استغلال المرأة من خلال المدونة الفقهية أو من خلال قراءة سطحية لبعض آيات القرآن، فكان حديثها عن جهاد النكاح من هذا المنظور وقدمت أمثلة عن فتيات تونسيات وقعن فريسة لفتوى البغاء المقنع من ذلك الفتاة إيناس.
وقبل التطرق إلى مقاربة ياسمين عطية نشير أولا إلى السياق العام الذي ظهر فيه ذاك المفهوم “جهاد النكاح” وكيف انتشر في الوسط التونسي وردود الأفعال حوله، وكيف كان سببا لكي تخصص له ياسمين مرافعتها.
ظهور المفهوم وانتشاره
هناك أنماط اجتماعية وقيم متنوعة غزت بعض المجتمعات العربية بعد ما يسمى بـ” ثورات الربيع العربي”، وفي هذا الإطار كانت الفتوى المتعلقة بجهاد النكاح التي لا وجود لها في الواقع، وهي فتوى هجينة ومجهولة الهوية انتشرت على هامش الأزمة السورية. وتتمحور حول دعوة النساء إلى التوجه نحو الأراضي السورية من أجل ممارسة نوع خاص من الجهاد، أي إمتاع المقاتلين السوريين لساعات قليلة بعقود زواج شفهية من أجل تشجيعهم على القتال.
ويشار إلى أن هذه الفتوى ظهرت بمثابة إشاعة في نهاية عام 2012، على قناة تلفزيونية سورية، وعلى الفور التقط الخبر من قبل بعض وسائل الإعلام الموالية لنظام بشار الأسد.
ويقال إن الداعية السعودي محمد العريفي قد أصدرها في ربيع عام 2013، حيث تتضمن سفر النساء إلى سوريا لتلبية الرغبات الجنسية للمقاتلين المعارضين للنظام السوري. واشترط العريفي حسب الفتوى المنسوبة له تجاوز أعمار الفتيات الرابعة عشرة من العمر وكونهن مسلمات.
وبعد الانتشار السريع الذي حققته الفتوى المنسوبة للشيخ العريفي، نفى الأخير نسبتها له وقال إن حسابه على الشبكة الاجتماعية “تويتر” لم ينشر هذه الفتوى بل هي مفبركة.
ويعتقد البعض أن الآلة الإعلامية للنظام السوري هي من اخترعت هذا المفهوم الجديد في إطار حربها على الثوار بعد أن كانت وصفتهم بأنهم من المتسللين ومن المنتمين إلى الخارج لنزع صفة الانتماء للوطن عنهم وأنهم عصابات مسلحة لتبرير استخدامها القوة ضد المتظاهرين.
وقد تلقى المجتمع التونسي مفهوم “جهاد النكاح” واستغل للإيقاع بالعديد من التونسيات للسفر إلى سوريا حيث المهمة معروفة سلفا، وتم فعلا التغرير ببعضهن بمقولات دينية في ظاهرها ولكن في حقيقتها هي نوع من الاستغلال لجسد المرأة بتوظيف الدين والمقدس.
وقد أبلغت عائلات تونسية فعلا في تلك الفترة، أي إبان ظهور مفهوم الجهاد وانتشاره، عن اختفاء بناتها المراهقات وسط ترجيحات بسفرهن إلى سوريا من أجل “جهاد النكاح”. وأعلنت وزارة المرأة والأسرة وقتها تسجيل عديد حالات اختفاء الأطفال المراهقين إثر ظهور شبكات متخصصة تستهدف الشباب والأطفال من الجنسين لتجنيدهم عبر ممارسة التجييش الفكري والعقائدي.
غير أن وزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي المحسوب على حركة النهضة الإسلامية صرح بأن فتوى “جهاد النكاح” لا تلزم الشعب التونسي ولا مؤسسات الدولة. وقال: “هذه الأمور مرفوضة، هذه مصطلحات جديدة، ما معنى جهاد النكاح؟ الفتاوى لا بد أن تستند إلى مرجعيتها العلمية والمنهجية والموضوعية، وأي شخص يفتي في الداخل أو الخارج ففتواه تلزمه ولا تلزم غيره من الشعب التونسي أو من مؤسسات الدولة”.
غير أن مسؤولا في وزارة الداخلية التونسية، قال: “إن تونسيات سافرن إلى سوريا بقناعة تقديم خدمات اجتماعية للمقاتلين من قبيل تمريض الجرحى والطبخ وغسل الثياب، وتم استغلال بعضهن جنسيا”.
لكن وزير الداخلية لطفي بن جدو كان قد أشار صراحة إلى أن فتيات تونسيات سافرن إلى سوريا تحت مسمى “جهاد النكاح” ثم عدن إلى تونس حوامل من أجانب يقاتلون الجيش النظامي السوري دون تحديد عددهن.وكانت صحف محلية أعلنت أن عددهن نحو 1000 فتاة سافرن إلى سوريا وأن نحو 100 منهن عدن إلى تونس حوامل لكن مسؤول وزارة الداخلية نفى صحة هذه الأرقام ووصفها بـ”الخيالية”.
وقال الشيخ عثمان بطّيخ، وكان وقتئذ مفتي الجمهورية التونسية: “إن ما يسمى جهاد النكاح هو بغاء وفساد أخلاقي وأن الأصل في الأشياء أن البنت التونسية واعية عفيفة تحافظ على شرفها وتجاهد النفس لكسب العلم والمعرفة”.
وفي أغسطس الماضي أعلن مصطفى بن عمر المدير العام لجهاز الأمن العمومي بوزارة الداخلية تفكيك خلية لـ”جهاد النكاح” في جبل الشعانبي (وسط غرب تونس). وقال ابن عمر: “إن جماعة أنصار الشريعة التي صنفتها تونس “تنظيما إرهابيا” قامت بانتداب العنصر النسائي بالتركيز خاصة على القاصرات المنقبات على غرار الخلية التي تم تفكيكها والتي تتزعمها فتاة من مواليد 1996".
المقاربة المميزة
هذا هو الإطار العام الذي استلهمت منه ياسمين عطية مرافعتها وبنت جملة أفكارها انطلاقا من العديد من المعطيات والسياق العام لظهور المفهوم وانتشاره ومن خلال تجارب فتيات عائدات من “الجهاد المقدس" من بينهن المسماة إيناس الفتاة التونسية التي تنحدر من وسط اجتماعي فقير من أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة التي كانت فريسة سهلة لدعاة البغاء المقنّع.
ياسمين أشارت كيف يتمكن البعض الذين يوظفون الخطاب الديني في التأثير على عقول هذا النوع من الشباب الذي يعيش ظروف الفقر والتهميش وعدم توفر الرعاية النفسية والاجتماعية مما يجعله في مرمى الفكر السلفي المتشدد الذي يتقن استغلال المقولات الدينية في مثل هذه الوضعيات.
إيناس القاصر مرت بتجربة قاسية حيث أحبت شابا لكنه تخلى عنها بعد أن قضى معها فترة من الزمن سلمت له فيها نفسها لتجد نفسها بعد ذلك في وضعية نفسية صعبة، إلى أن تعرفت على شاب سلفي استغل وضعيتها وتزوج بها عرفيا وأقنعها بضرورة الهجرة إلى سوريا للتكفير على ما ارتكبته مع عشيقها، ونظرا لصغر سنها وحالتها النفسية الصعبة وافقت إيناس وهربت من منزل عائلتها وعاشت مع الشاب السلفي، إلى أن حان موعد الرحيل لتغادر التراب التونسي وتتوجه معه إلى سوريا.
وفي دمشق سلمها السلفي إلى شيخ سوري عرفها على مجموعة من المقاتلين وبدأت رحلة العذاب لتدخل في دوامة الدعارة ليلا ونهارا، مرضت إيناس وأصيبت بأوجاع حادة على مستوى رحمها إلى أن استدعى الأمر التخلي عنها لعدم مقدرتها على ممارسة الرذيلة تحت غطاء الجهاد، وتأزمت حالة إيناس إلى أن أمر بترحيلها إلى تونس. وفي مطار تونس قرطاج تم إلقاء القبض عليها من طرف الأمن والاستماع إلى أقوالها، لتجد نفسها بعد ذلك في شوارع العاصمة بعد رفض أسرتها لها. هذه القصة المعبرة عن مأساة فتاة تونسية وظفتها المحامية الشابة في مرافعتها لتبني عليها جملة من الحقائق التي تتطلب التدخل السريع قبل استفحالها. ذلك أنه، ومن خلال المرافعة، فالمرأة التونسية كسبت العديد من الحقوق من خلال تاريخها النضالي وتمكنت من تجاوز الكثير من العراقيل في الدفاع عن مكانتها في المجتمع وفي إصرارها على حقوقها ومساواتها مع العنصر الذكوري، فكيف بعد هذه الإنجازات تتسلل للمجتمع الحداثي المدني مفاهيم مثل “جهاد النكاح” نابعة من فكر متخلف لا يرى في المرأة إلا مصدرا للمتعة والترفيه.
وياسمين في مرافعتها قدمت مقاربة متميزة ودافعت بشراسة عن المرأة التونسية وحقوقها ومكتسباتها، ورأت أن تلك الأفكار الدخيلة على المجتمع التونسي لا يمكن لها أن تقوض الصورة الإيجابية التي ارتسمت في الأذهان عن وضع المرأة التونسية والمكانة التي وصلت إليها.
ودفاع المحامية ياسمين عطية عن المرأة بقوة الحجة كان من خلال النماذج والوضعيات التي قدمتها في مرافعتها “جهاد النكاح”، يؤكد ولادة محامية قادرة على الوقوف أمام كل الأفكار التي تحاول إعادة المرأة إلى كهوف الظلام وسلبها مقومات وجودها الإنساني.
فهل تقدر هذه الشابة على الصمود أمام الفتاوى التي تحاصر المجتمعات العربية وتصر على وضع المرأة في منزلة دونية بوصفها متاعا دنيويا؟