نقضت ثلاث سنوات على انتهائي من الماجستير ولم تنقضِ تلك المشاهد ولم تمحَ من ذاكرتي بعد، كانت رسالتي دراسة ميدانية لحالة المرأة السورية اللاجئة في مخيم الزعتري الأردني، كانت أياماً جميلة رافقني فيها أخي وأوراقي وكاميرتي وحر الصيف في الصحراء، كنا نخرج لأيام متتالية منذ الصباح ولا نعود حتى المساء، نستمع للنساء هناك ونعبئ الأوراق والاستمارات بناء على أقوالهن.
ولم يكن شيء يفرح القلب في ذاك المخيم سوى عيون الأطفال البريئة وضحكاتهم التي تروي مرارة الطفولة التي يعيشونها دون أن يدركوا مرارتها من الأساس لصغرهم.. يلعبون بسعادة بحجارة الصحراء التي تخدش نعومة أيديهم الصغيرة الغضة الطرية، معتقدين أنها لعبة وغيرهم ينعم بالألعاب الكثيرة الغالية ثم يتذمر منها.. لا علينا فليس حديثنا هنا عن البطر بالنعمة الذي يشهده ويعيشه أولادنا في هذا الزمان!
قابلنا نساء من مختلف الأعمار ومختلف الأوضاع الاجتماعية، المتزوجة والعزباء، الصغيرة والكبيرة، المتعلمة وغير المتعلمة، جميعهن اجتمعن على شيء واحد هو الذي عبّرت عنه إحداهن بإيجاز بقولها: خرجنا في بلدنا نطالب بالموت ولا المذلة، فهربنا من الموت وأتينا إلى المذلة بأرجلنا!
أكثر القصص المؤلمة أتت عند سؤالهن عما تعرضن له في سوريا من عنف نفسي وجسدي وجنسي قبل اللجوء، قصص يشيب لها الولدان.. إحداهن روت عن المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين، وخاصة الأطفال وبالتحديد مجزرة كرم الزيتون في حمص، قالت: كنت أعصر القميص الذي قد ارتداه زوجي في دفن الأطفال المذبوحين فيسيل منه الدم مع كل عصرة لغزارة الدماء التي روت قميصه إثر ذبحهم.
وتكمل: ما زلت أسمع أيضاً صوت القذائف في أذني، وأطفالي حتى الآن يستيقظون في منتصف الليل يصرخون بهستيريا ويبكون وإذا ما سمعوا أي صوت عالٍ تغيرت ملامحهم وارتموا في أحضاني يصرخون ويبكون!
لقد استمعت للعديد من القصص المؤلمة من لاجئات عايشنها، لكن قصة تلك الفتاة التي أطلقت على نفسها اسماً مستعار هو "فاتن" كانت تدق باب ذاكرتي بين الحين والآخر؛ لتذكرني بها أكثر من غيرها، كانت فاتن من مدينة حمص، وبالتحديد من منطقة تدعى باب الدريب، وعمرها كان آنذاك ١٨ سنة، أتمتهن داخل المخيم، ما زالت البراءة هي عنوان وجهها، قابلتها بعد محاولات كثيرة مني وممن حولها، خاصة أخت زوجها التي أخبرتني بيني وبينها أنها متأكدة أن زوجة أخيها قد تعرضت للاغتصاب، لكنها تتكتم هي وزوجها (الذي هو أخوها) عن الموضوع، فهو أيضا كان معتقلاً، وعندما خرج من محبسه تزوجها بعد أن فقدت هي وأخوها الصغير والدهما الذي ليس لهما أحد بعد الله سواه وعمها، فهي ابنة الحي الذي يسكنه هو وعائلته، كما أخبرتني أن لحظات هستيرية تنتاب فاتن تصرخ فيها، وتكسر كل شيء أمامها، ولا أحد يجد لفعلها تفسيراً سوى تعرضها للاغتصاب، خاصة أن إحداثيات الموقف الذي مرت به فاتن تدل على ذلك.
قابلتني فاتن بداية على استحياء، حاولت أن أكسر الحاجز بيني وبينها بأن فتحت معها مواضيع عادية في البداية، ومازحتها قليلاً، وأشعرتها أني أتفهم جيداً صعوبة ما تمر به وصعوبة البوح به، لكني أحاول أن أساعد بقدر استطاعتي، لم أشعر بنتيجة في الساعة الأولى، بل على العكس شعرت أني لن أخرج منها بأية معلومة ما دامت هي متحفظة على ذكرياتها، لكن بحكم براءتها بدأت تتفاعل معي قليلاً، ثم ما لبثت أن شاركتني قصتها التي كانت خلاصتها كما روتها على لسانها: لقد تم استخدامي كمدرع بشري أمام دبابة النظام للدخول إلى الحي الذي أسكنه لعمل مداهمات واعتقالات لرجال وشباب الحي، وبعد ذلك تم اختطافي لمدة يومين كاملين في شقة في منطقة تدعى القرابيص، وكان في الشقة فتيات أخريات من نفس الحي الذي أسكنه، شاهدت بعيني كيف تم اغتصابهن، ومن ضمنهن عروس حديثة الزواج ماتت مباشرة بعد الاغتصاب، سألتها مقاطعة بصوت منخفض: وهل اغتصبوك يا فاتن؟ أجابت سريعاً برعب: لا!، ثم ما لبثت أن ربّتّ على كتفها قائلة: أنا هنا لأساعدك ولن يظهر اسمك في شيء ثقي بي، ثم أعدت السؤال: بغلاوة والدك أجيبيني بصدق هل اغتصبوك؟ بكت بحرقة وقالت وهي تمسح دموعها التي تحرق وجنتيها وقالت (بالعامية): آه يا بابا يا حبيبي اي اغتصبوني الله ينتقم منهن، وبكيت وصرخت وحاولت أدافع عن حالي بس كنت متل المشلولة ما عم بقدر أتحرك وما كفاهن اللي عملوه فينا وكملوها بإنهن حرموني من أبي لطول العمر، طلعت من هون بكتشف إنو أبي مات حرق.. حرقوه بالمخزن اللي تحت بيتنا وضل أخي الصغير لحاله، لأنو أمي متوفية، وطلعت ما لقيت بقي لي بها الدنيا إلا أخي، وبعدين تزوجت زوجي اللي هو ابن جيراننا، وما حدا بيعرف باللي صار معي إلا هو وهلا انت!.. ثم أكملت لي قصتها حتى نهايتها بالتفصيل.
صمتّ صمت العاجز حتى عن المواساة وماذا عساي أن أقول بعد ذلك، تساءلتْ: هل ما زالت إنسانيتنا على قيد الحياة أم أنها تحتضر؟! وهل أوقفت القمم العربية واتفاقيات حقوق الإنسان واتفاقيات حماية المتضررين من الحروب ما يجري من ظلم؟! هل فاتن هي من كُسرت! أم نحن الذين كُسرت كرامتنا وإنسانيتنا ومبادئنا؟!
كان يا مكان في زمن الرجال حين صرختْ "وامعتصماه" حُرّك جيش كامل للثأر لها، ونحن في أيامنا يصرخون ويُغتصبون ويغرقون ولا يتحرك شيء فينا سوى مشاعر بعضنا، وكاميرات بعضنا الآخر، وكراسي تُصفّ حول دائرة مستديرة تستنكر وتستوجب، ووجوه تدفن رؤوسها في التراب كالنعام هرباً أو خجلاً أو خوفاً لا أحد يدري.
ولا يبقى للمظلوم في النهاية سوى حرقة الدعاء لرب العباد بالفرج القريب فهذا هو أضمن علاج!