مشهد (1):
طفلة ترسم، والخلفية وراءها كلها ألوان، ماذا ترسم؟ ترسم وروداً جميلة كمثلها، وبعدما انتهت ذهبت لأبيها -الذي كان وأمها يتشاجران- حتى يُبدي رأيه كما يفعل دوماً، لكنه بدلاً من ذلك اختطف الورقة منها وقطعها آمراً إياها بالذهاب إلى النوم.
مشهد (2):
يعود من العمل مُرهقاً، يجلس لمشاهدة المسلسل اليومي، تطلب زوجته أن يخفض من صوت التلفاز قليلاً؛ لأنها مريضة، يسبها -وعنداً فيها- يرفع من صوت التلفاز، فتحاول مرة ثانية: "من فضلك".. فيضربها.
مشهد (3):
أبوان وطفلاهما في الاستاد، يشاهدون معاً مباراة النهائي للنادي المفضل لهم، تُقطع الكرة، وتدخل في شباك ناديهم المفضل، فيصيح الأب بألفاظ بذيئة، وحینها تلقي الأم بالأحجار على اللاعبين، وطفلاهما بينهما.. يستمتع!
هيا بنا نبدأ رحلتنا في الطب النفسي والاجتماعي بهذا المقال القصير، الذي سنتحدث فيه عن واحدة من القوى المتضاربة التي يعتبرها البعض محرِّكاً من محركات الطبيعة البشرية ألا وهي: العنف!
يمارس الناس العنف بطرق وأساليب مختلفة (لفظياً، وعاطفیاً، وجسدیاً) ودعني أولاً أخبرك كيف يعرِّف الطب النفسي والاجتماعي العنف.
العنف: هو سلوك يقصد به إيذاء أو تدمير شيء أو شخص أو حتى النفس.
ويحدث ذلك لأسبابٍ عدة، أهمها: الغضب، توطيد السيطرة، أو استجابة الخوف، ولكننا الآن -كما أسلفنا- سنتحدث بطريقة علمية، وتحديداً في علم النفس، وهذا يجعلنا نتساءل بجدية: من أين يأتي العنف فعلاً؟
ينبثق العنف -ككثير من السلوكيات- من مزيج من العوامل البيولوجية (كالمؤثرات الجینیة، والعصبية، والبيوكيميائية)، وكذلك من البيئة، دعنا نحلل كلاً منها علی حدة.
أولاً: المؤثرات الجینية
فلقد أجريت دراسات على التوائم، وجدت أنه إذا كان لدی أحد التوأمين المتطابقين طابع العنف، فإنه سيتواجد لدى الآخر، ولكن لا يظهر هذا التشابه في التوائم غير المتطابقة.
ثانياً: المؤثرات العصبية
في البداية لا بد أن تعرف أنه لا توجد منطقة محددة مسؤولة عن الموضوع، ولكن بعض المناطق (كالجهاز الطرفي Limbic system) مسؤولة عن التحكم به، بيد أن البحوث قد أظهرت وجود ربط بين العنف وتلاشي النشاط في الفص الأمامي (Frontal lobe) للدماغ.
ثالثاً: المؤثرات البيوكيميائية
فالهرمونات (كالتستوستيرون Testosterone، والجلوكوكورتيكويد Glucorticoids) قد ظهر تأثيرها في العنف على الحيوانات، ورغماً عن اختلافه في حالة الإنسان، لكنها قريبة منه بالطبع!
العنف ليس فقط ظاهرةً بيولوجیة؛ فللعوامل النفسية والثقافية دور هام، دعنا نذكر منها (فرضية الإحباط والعنف Frustration -aggression hypothesis) والتي تنص على: أن الناس يصبحون عنيفين ببساطة عندما یُمنعون من تحقيق هدفٍ ما.
يمكن أيضاً للعنف أن يأتي من مراقبتنا للآخرين، فعلى سبيل المثال إن كبرت على والديك يتشاجران ويصيحان بألفاظ بذيئة (كما حدث في المشهد الثالث)، فلربما انتقل إليك شيءٌ من سلوكهما.
لقد قالت (ميج وايتلي) في إحدى كتاباتها التي لا أقرأها:
"إن العنف يتحرك نحو اتجاهٍ واحد فقط، ألا وهو: العنف"، هي بالتأكيد محقة الآن، فماذا يولِّد غيره؟
حمداً لله أن للبشر أكثر من مجرد طباعٍ حدة، بل إنهم يمثلون تضارباً من الطباع، ولذلك كما يوجد الغضب، هناك الحب، والمراعاة للذات (وسائل وأمثلة المساعدة كثيرة دعنا منها الآن)، وسنتحدث عن ذلك في النصف الثاني من المقال كوسيلة للحد من العنف وانتشاره.
المساعدة، والتعاون، شيئان لا يختلف اثنان على أهميتهما في النهوض والتقدم في أي مجتمع كان، ولكنني لا أحب أن أتحدث كثيراً فيما تعرفه سلفاً، دعني أضيف لك جديداً، هل تعرف أنك إن كنت وحدك ستزداد فرصة تقديم المساعدة للغير؟ لا تقلق، الآن ستعرف.
إن ذلك يذكرنا بالتجربة التي قام بها العالمان (جون م. دارلی John M. Darley، وویب لتوان Bibb Latané) حيث وضعا إنساناً في حالة طارئة، مرة وهو وحدة، وثانية ومعه اثنان آخران، وجدا أن تم التبليغ عن الحالة الطارئة في 70% من الحالة وهو وحده، و 38% تقریباً وهو مع الآخرين.
- لا أفهم ما تحاول أن تقوله..
فاستنتجا أن الناس يساعدون غيرهم في العادة فقط عندما تكون الحالة طارئة، وذلك بدرجة أكبر عندما يكون الإنسان وحده، أما وجود الآخرين يجعله يتكاسل عن المساعدة، وهذا هو ما يطلق عليه (تأثير المتفرج bystander effect).
هناك أسباب ونظريات كثر لتفسير مساعدة الغير، أحدها يقول إننا نساعد الغير فقط إذا كان ذلك في مصلحتنا (أي تحقيقاً لاستفاداتنا الشخصية)، وآخر يقول بأنها ليست أنانية دائماً بل يمكن أن تتم؛ لأننا نتوقع بأن هذا الشخص (الذي ساعدناه) سيساعد الغير، وربما يكون الغير نحن!
في النهاية.. يا صديقي أياً كان الدافع وراء ذلك، عليك أن تساعد، وبعد أن قارنا بين الجانبين سريعاً، اعلم أنه حتى إن كان الطمع والمصلحة الشخصية والعنف قادرة على تدمير العالم، فالتعاون ما زال قادراً على إنقاذه.