حبيبي لي وأنا له
سأرافقه حتى لو باعني في السوق
أحبه أحبه لا أخفي ذلك .لن أنكره
حتى لو قطعوا كل شاماتي.*
.... للمرأة اينما كانت في رقعة هذا العالم فنونها وتراثها الشعبي الشفاهي الذي تبوح من خلاله بمكنوناتها وما يعمر وجدانها ، شكوى ألم وفجيعة ، أم بوح فرح وأمل ،معلن أم مرموز ،و يأتي إصدار الشاعرة الليبية كريمة الشماخي المعنون (البوكالة في الموروث الشعبي الليبي) و أصدار الاذاعية الرائدة عويشه الخريف ( البوقاله الطرابلسية ) حافظا وموثقا لأحد صنوف غناء المرأة الشعبي وهو جهد بكر ورائد ،وتأتي أهميتهما ككتابين رائدين في الموضوع في ظل نقص الجهود المنظمة والمدروسة للجمع والحفظ من جهة(بالنظر الى الرقعة الليبية ) ،وإن حضرت فمركزيتها ممثلة إما في الشعر الشعبي (الذكوري عادة) أو الأمثال الشعبية من جهة أخرى ،وحيث أننا لم نؤسس بعد لولوج علم الماثورات الشعبية كمنهج ومفردات الى كلياتنا المتخصصة في العلوم الانسانية ليتاح للمواد الخام الشعبية(المادية واللا مادية) _ من ثم_ المحك الحقبقي للبحث والتحليل بالمناهج الفولكلورية المتعددة.
طقس البوقاله
أجواء جلسة البوقالة كما عاصرتها في القرن الماضي النساء في مدينة طرابلس، تبدأ بالعتبة الاستهلال ، تقودها سيدة موثوقة( كبيرة في السن)، وصاحبة خبرة ، وكمرجعية اجتماعية للعادات والتقاليد المتوارثة ،ستسمعُ منها الصبايا الحاضرات إلقاء مقطع أول البوقالة :
على أول ما بديت وعلي النبي صليت
وعلي اصحاب العشرة ناديت
وقلت يا خالقي غيت كل مُغيت
ورغم تحديد " الليالي الرمضانية" كفضاء زماني لطقس البوقالة حسب من كتبت ووثقت لمادة البوقالة الشاعرة الليبية المغتربة كريمة الشماخي ، إلا أن سؤالي الأستقصائي لأكثر من سيدة ممن عاصرن جلسات البوقالة الطرابلسية ، أكدن لي أن الأمسيات اليومية عموما كانت مسرحا لقعدة البوقالة ، فما إن تُشير السيدة الحافظة الى الفتيات حتى يتجمعن حولها ، وفي بعض الأحيان يأتي الطلب من الفتيات الى السيدة ، ولم يكن مشروطا بليالي رمضان فقط ،وكما اكدت لي لاحقا صاحبة الاصدار الثاني عن البوقاله الاذاعية عويشه الخريف ، فالبوقالة الفضاء الاجتماعي المتاح في مجتمع بطريركي ، محافظ لا يتعدى دور المرأة فيه الاهتمام ببيت عائلتها، ثم بيتها و زوجها وأبنائها _ الذي لا تغادره إلا لماما -لذلك تقول ذاتها لذاتها ، وتعيد تكرار ذلك لبنات جنسها! ، تبث هواجسها وحيرتها المرتهنة بصراعها الدائب من اجل أن تتحقق متطلبات بقائها وفق الاعراف والتقاليد المرعية ، والبوقالة التي ترد بلهجة شعبية دارجة ، لا تكلف فيها ، مفرداتها عفوية بسيطة لا قافية إلزامية .أما فضاءها الجغرافي فمُحدده و مركزيته مدينة طرابلس وأطرافها ، وقد نلحظ تغيراً في بعض كلماتها إلا أن المضمون لذات البوقالة يظل واحداً.
وعن وقائع جلسة البوقالة (**): " تأخذ سيدة الجلسة من تستحوذ بألباب الفتيات (أُميمة او حنه) غطاء رأس ( يعرف شعبيا التستمال أو ما شابه ذلك) _ من إحدى الفتيات الجالسات، وتطلب منها أن تحمل نية أمنيتها سرا ، فاذا كانت غير متزوجة يكون أملها عن زوج المستقبل (قوة السعد كما يشاع محليا )،وإن كانت متزوجة فأمنيات بمزيد من الصحة والرزق والخِلفة والسعادة الزوجية،بعدها تطلب سيدة الجلسة من (الفتاة أوالمرأة) أن تعمل عقدة في حاشية الغطاء ،وتبدأ السيدة بإلقاء أبيات البوقالة التي قد تتطابق مع ما حملته في سرها (الفتاة أو المراة المتزوجة ) من نوايا، وهكذا تفك عقدة غطاء الرأس ، وتعطيه لفتاة أخرى الى أن يمر على جميع الفتيات بذات الطريقة لتشمل كل الحاضرات،فيغادرن الجلسة مشبعات بالبهجة وتباشير حالمة بفأل حسن لأفراح ومسرات قادمة.ولعلها إحدى الوظائف النفسية التي تشي بها جلسة البو قالة .
+معنى البوقاله !
مصطلح البوقالة يُحيلنا الى مرجعية دلالية ذكورية فهي (نوع من الأدب الشعبي لشاعر أو راوي مجهول المصدر )،وفي تأويلنا للـ: بو ، قاله ،فمقطع : البو= الأب ، وهو لفظ دلالته تشير الى مالكها ،(القالة، القول) وربما كان المُلقي الأول لهذه الأبيات ذكر، ، ثم تحولت ملكيتها الى المرأة مع الإبقاء على التسمية( البو قالة)، فمتنها شُغله الشاغل والمخاطب فيه الرجل، وإن كان الخطاب الشائع احادي الوُجهة من المرأة الى المرأة ، والقاله: من القول أو ما يصدر عن الكائن، وفي حديث جمعني بباحثة جزائرية لفتت انتباهي الى أنهم يسمون حلة الفخار (ذات الغطاء المفصول) التي يطبخون فيها بالبوقاله ،ويقصدون حكاية الصوت الصادر عن الغليان!
أغراض البوقاله
لعل أول غرض للبوقاله وطقوسها هي الاجتماع والألتقاء سمرا وتزجية للوقت واستمتاعا بلُعبتها المُلغزة، اذ التمنيات في المجمع تظل سر صاحبتها ! ، و لنا أن نضيف أن لها وظائفها التربوية! كونها تصدر عن أم أو جدة لها علائق حميمة بفتيات العائلة (داخل البيت ) والفتيات الاخريات ( الضيفات من المحيط المكاني ) وهي سيدة لها مكانتها واحترامها من تشيع الأمل والتفاؤل ، وتعالج وتبلسم نفوسهن بالأمل والرجاء في ذلك الجمع النسوي ، خاصة وان عوالمها مغلقة حيث لا متنفس الا ما تبثه رسائل البوقالة، ولو كانت صناعة وهم! لما تحب وترغب من منح مُتخيل ، لمشاعر جياشة تجاه حبيب مُنتظر يأتي وقد لا يأتي ،تتوسل في ذلك بوسائط قولية دينية شائعة تبدو كالازمة تبعث الأمان والاطمئنان لقبول ما تتطلع إليه، كااستدعاء الأولياء الصالحين (سيدي عبد الوهاب ، وياسيدي مصطفى ،ياسيدي فرج،)
ورغم بساطة وعفوية هذا المخزون الأنثوي الشعري الذي يُنظر إليه في يومنا هذا مرتبطا بوعي زمانه ومكانه واشتراطاته الاجتماعية والثقافية ، فأننا نلمس في متن الأشعار المنثورة صور لامرأة تُفني ذاتها من أجل إرضاء الأخر المُتخيل القادم ،أو الزوج المُتحقق ،ولا يظهر كيانها ومركزها إلا موصوفة بالمطيعة المؤدبة والحافظة لشرفها وعفتها في حضوره وغيابه، لا تطلب شيئا لذاتها إلا أن تكون له الأنثى الجميلة المُغوية المرغوبة ،المثال للخصوبة والحنان ،وسنعرض نماذج تدلل على ذلك.
المحظور تُعلنهُ البوقاله !
إلا أن هناك ما يشذ في نص البوقاله عن تلك الصور التقليدية ، وحتى لا يكون حُكمنا عموميا ، ففي المتن ما يوحي بالتمرد والاحتجاج على بعض من المحظورات والضوابط الاجتماعية الملزمة للمرأة كتابعة وخاضعة ، حين نسمعها تعلن عن رأيها في اختيار من تحب ، بتحديد شروطها في شخصه وسلوكه بل وحتى مهنته ، ويصل رفضها المعلن تجاه من أجبرت على الزواج به حد تركه والهرب لملاقاة من أحبته ورغبته !، كما إنها تنتقد بعضا من السلوكيات الاجتماعية السيئة كالنميمة ،والغيبة ، والغيرة في غير محلها ، وأيضا التميز العنصري والفوارق الطبقية .
جماليات البوقاله
وتمنحنا " البو قالات " عند الاستماع الى نصها أو قراءتها ما يُمتع حواسنا بمشاهد جمالية مستقاة من المكان المغلق الذي ألفته وملأ بصرها ، نتحسسه معها ونتذوقه! فمن مستعملات الحياة اليومية التي تبدو ذات خصوصية لطرابلس وضواحيها ومداخل بيوتها (محبس حبق، الخوخ والرمان ، الدلنجة ، وردة وشمامة وريدة ، زريعة الكسبر ،) وماارتبط بالأزياء الشعبية ( كاط الطرنج ، فرملة زرقة ، حولي مور، لبست العكري ، دبالج ذهب )،وعرض مفتوح لمباهج الجسد من عالم الانوثة الخاص وفضاءاتها ، فالبو قالة الملاذ للبوح الانثوي المشرع حتى أنها تستعير صوت الأخر لتتغزل بمباهجها نيابة عنه ( سالف على خدها ، بالمسك والعنبر تملا بتاتيها ، قفطان زهر، ،النجوم مثلتهم ساقك ،هدلت اديك الشعور، والوشقة والجنزارة ، عود قماري ، خطمت تجرجر في فوطتها ،وشمه علي خدها زي القنديل) وتفاصيل من معمار الأمكنة المتعددة الظاهر والخفي.(طبست علي شط البحر، مشيت للحومة ، سقيفتها بالمصابيح تضوالي، خشيت باب الجنان، الحوش بالداليا والجابية بالحوت ، قفص مرجان ، روحنا من ازمير، السما قنطرة والبحر سلوم)
1_ نماذج من البوقالة:
أسمك علي والعلي عالي
ياجوهرة في العقد
يا نقش خلخالي
دير روحك طبيب
وتعال شوف حالي
نصلي أني وياك جماعة
في الجامع العالي
2_طقيت باب الجنان طلع لي عرف الفلفل
الياسمين حل لي والورد قال لي ادخل
أني خشيت إللي بيطير يطير والي بينزل ينزل
3_خشينا حني التلاتـه للجنان
وحدة خذت كابه ووحده خذت شال
وأني خديت سيد الرجال خير من ألف ريال
4_ يا شيخ الاسمر اناديك ضايق بلا راد حالي
شيل المفاتيح في ايديك والمسكره حلها لي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- نموذج من شعر (اللاندي ) لنساء البشتون الافغانيات*(
(**)كريمة الشماخي- البوقالة في الموروث الشعبي الليبي- دار المختار .