قال المازني أبو عثمان: "لا ينفع المتقدم تقدمه إذا قصّر، و لا يضرّ المتأخر تأخره إذا أجاد".
و قال الجاحظ: "ما على الناس من شيءٍ أضرّ من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئا".
على ضوء هاتان المقولتان يمكن الحديث عن أسباب الحضارة الإنسانية و فكرة نشوء حضارة متكاملة.
قرأت مؤخراً خبراً عن انعقاد مؤتمر حول الاستثمار في الثقافة أقيم بسلطنة عمان و شدني فيه مشاركة إحدى الرائدات في عالم الآداب و الثقافة و هي الشاعرة و الباحثة و الناقدة القطرية سميرة عبيد.
قدمت سميرة عبيد في المؤتمر ورقة تتحدث عن مشروع "كتارا" الثقافي، و جدوى الاستثمار في الثقافة.
و من هنا نعود إلى المقولتان في بداية المقال و أؤكد أن الثقافة العربية هي آخر معقل للعرب للتخندق فيه، و أن التغني بأمجاد الماضي و القدماء لا يمكن أن تؤكد أن أي دولة عربية تمتلك حضارة الآن لأن فصل الماضي عن الحاضر هو أكبر دليل على التخلف و التقدم إلى الخلف، و لعل أهم ملمح يمكن ملاحظته في موضوع المؤتمر و يدل على وعي حضاري هو أن تشارك امرأة ممثلة بلادها ثم وجود مشروع ثقافي حقيقي يعمل بكل ما أوتي من دعم ليشكل مهبطا تتلاقى فيه كل الثقافات و تقيم بهجتها فيه و تعرض منتوجها الفكري و الثقافي فيه مثل مشروع "كتارا" و بذلك لم تخسر دولة مثل قطر شيء يمكن أن يحسب عليها فما تقدمه من خلال هذا المشروع و غيره يكفي ليكون سببا حضاريا يخولها صفة التحضر.
لو تحدثنا الآن عن الشاعرة الناقدة و الباحثة سميرة عبيد هو أفضل لنؤكد الفكرة التي وجدناها في مقولتا بداية المقال و هو تأكيد أيضا على الوعي و الرقي الحاصل.
لا يمكن لأي شيء قد يؤكد وجود حضارة إنسانية مثل احترام حقوق الإنسان لن أقول احترام حقوق المرأة لأن لفظة إنسان في عرفي تشمل المرأة و كذلك حتى لا نكون كبعض الديانات و لغاتها التي لا يشمل إلا الرجل فقط مصطلح الإنسان فيها أما النساء فيتم تمييزهن بلفظة المرأة و الأنثى و هذه دليل العنصرية و التخلف و التمييز الذي لا يبني حضارة بل يزيد من نكوص الحضارة و سقوطها في الوحل.
ذلك الاحترام للمرأة في دولة مثل قطر يمثل علامة إيجابية تضاف إلى رصيد إنجازاتها على المستوى الثقافي و الحضاري.
الشاعرة سميرة عبيد تكتب الشعر و تنشر مؤلفاتها و تترجم أعمالها الثقافية إلى اللغات الأخرى و تكتب القصة و تكتب المسرحية و تكتب الأبحاث و تساهم في محافل ثقافية عربية و دولية و تمثل بذلك وطنها و ترأس صالونا أدبياً و ثقافيا و تدعم أنشطة كثيرة ثقافية و تنموية و تعزف الموسيقى أيضا و لعلها تجيد الكثير عدا هذا حتى و إن لم نذكره هنا سهواً و كل هذا النشاط تمارسه المرأة بحرية تامة و بلا أي قيود أو شروط و في هذا ما يدل بالضرورة على الحس الحضاري الكبير الذي وصلت إليه هذه الدولة و قد نفاجئ أيضا بترقية المرأة في مناصب قيادية كبيرة ثقافية و غيرها و سيكون حينها وضع العرب أفضل من وضع أوروبا لا لشيء إلا لأن النموذج الذي قدمه الغرب في احترامه للمرأة كان بدافع إضطرار و ليس عن قناعة بأن المرأة و النموذج العملي و العلمي الذي قدمته كان أفضل بكثير في أحيان كثيرة من نموذج الرجل، أي ليس حبا في المرأة بقدر ما هو نكاية في فشل الرجل و لعل التجربة الألمانية أكبر شاهد فاحترام المرأة فيها كان دافعه امتدادا لإنجازاتها في تعمير بلادها بعد الحرب العالمية الثانية ما سمي بـ " أسطورة نساء الأنقاض" و لذلك و غيره سيكون تنصيب نساء في أماكن قيادية عربيا و في الدول الأغنى دليل وعي حضاري يتفوق على وعي أوروبا لأنه اختياريا و ليس اضطراريا وجبرياً.