كل الآباء يحبون أطفالهم، هذه حقيقة عامة ولا جدال حولها، ولكن ليس كل الآباء يعبرون لأطفالهم عن حجم الحب الذي يكنونه لهم بنفس الطريقة، ولا نقصد بالتعبير عن الحب مجرد الكلام الشفوي أو إغداق الهدايا وتقديم أجمل الملبس وألذ المأكل إليهم، بل الأفضل من هذا كله، هو توفير محيط عائلي تتوفر فيه متطلبات الحياة التربوية المثالية.
يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو في كتابه “إميل” أو “تربية الطفل من المهد إلى سن الرشد”، "نحن نولد ضعفاء، وفي حاجة إلى القوة، ونولد مجردين من كل شيء، وفي حاجة إلى العون، ونولد حمقى، وفي حاجة إلى التمييز. وكل ما يعوزنا عند مولدنا، ونفتقر إليه في كبرنا، تؤتينا إياه التربية”.
وقد أراد روسو من خلال قوله هذا أن يبرز أهمية طريقة التربية بالنسبة إلى الطفل، وما لها من تأثير مفصلي على كل مرحلة من مراحل حياته.
وفي واقع الحال يمتلك أغلب الآباء القدر نفسه من الكفاءة في تربية أطفالهم، وحتى من لا يمتلك الكفاءة يستطيع أن يحسن من أدائه من خلال بذل قدر قليل من الجهد، وطلب الاستشارة من الأهل والأقارب أو الاطلاع على المراجع الكثيرة المتاحة في كيفية رعاية الأطفال وتنشئتهم التنشئة الصحيحة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة لماذا تؤدي بعض الطرق التربوية إلى نتائج أفضل من غيرها؟ من حيث متانة العلاقة بين الآباء والأبناء، ووجود أطفال سعداء وأصحاء وناجحين في حياتهم، فيما توجد في مقابل ذلك علاقات أسرية متوترة وأبناء تعساء ومرضى وفاشلون في حياتهم.
يبدو الفارق بسيطا، وإن كان غير واضح ومرئي بالنسبة إلى العديد من الآباء، ممن يعتقدون أن المال هو أهم ما يجب توفيره للأبناء، ولذلك بات من الصعب عليهم، في ظل الانغماس المتواصل في العمل وعلى مدار النهار والليل وأحيانا، أن يجدوا وقتا لقضائه مع أطفالهم، ولم يعد أمامهم خيار آخر غير تزويد أطفالهم بهواتف ذكية من أجل تسهيل عملية التواصل معهم، إما بالتحدث إليهم بالرسائل النصية والصوتية، أو بتتبع أخبارهم وتحركاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
صحيح أنه لا يمكن إنكار قيمة الدور الذي يلعبه المال ومختلف التجارب التي يمر بها الأطفال في السنوات الأولى من أعمارهم في التأثير على شخصياتهم وسلوكياتهم، وبالتالي تحديد ملامح مستقبلهم.
ولكن حين تتحول المشاعر بين الآباء إلى ما يشبه الموجات اللاسلكية، ويقتصر تبادلها على الفضاءات الافتراضية، من دون أن يكون لها فضاء واقعي أرحب تنمو فيه وتتوطد، فإنها ستموت مع الوقت، ويصبح من الصعب إنعاشها وإعادة الحياة إليها من جديد، وعندها ستكون الخسارة كبيرة بالنسبة إلى الآباء والأبناء على حدّ سواء.
ولذلك فإن عادة الاكتفاء بالسؤال عن الطفل بالهاتف يجب كبح جماحها، وعوض إعطاء الآباء أجهزة ذكية لأطفالهم، فالأفضل أن يضمونهم إليهم كل يوم ويشاركونهم اهتماماتهم وأوقات فراغهم، حتى يتيحوا لهم الفرصة لأرشفة ذكريات أسرية تجمعهم وتقوي الرابطة العاطفية، ويعلمونهم كيفية التفاعل الفكري والعاطفي، فيكون باستطاعتهم التأثير فيهم تأثيرا إيجابيا في كل مرحلة من مراحل تطورهم.
فليس بالمال وحده يحيا الطفل، بل بالحب والعطف والحنان، والآباء الذين يغدقون على أطفالهم المال ويحرمونهم من تكوين رصيد معنوي سواء عن قصد أو من غير قصد، يكونون قد ضيعوا على أطفالهم أهم أسباب السعادة.