تبدو كلمة " أنت " صغيرة بجانب كلمة الحضارة، ولكن لكل ذاتٍ منا حضارة خاصة بها، قد تكون متصلة بالحضارة المعاصرة أو قد تكون منفصلة عنها بل وقد تكون معادية لها؛ لكل منا الحق بأن يختار المعالم التي يريد من حضارة قديمة أو حديثة ولكن لا يملك أي منا أن يتجاهل الحضارة التي نحيا بها. والحضارة المعاصرة لم تعد تقتصر على التعريف الغربي لها لأن الحضارة المعاصرة أصبحت تتجاوز الحدود والجنسيات. لذا يبدو أنه يوجد نوعين من الحضارة الحضارة العلمية التي معقلها الغرب والحضارة العالمية التي تمتد مساحتها في كل البقاع بسبب ما منحته التكنولوجيا من إلغاء للحدود والقيود.
أنت والحضارة ليس فقط مجرد فكرة، ولكنه واقع حقيقي، لأننا جميعاً نعيش بتأثير مفاهيم متعددة فرضتها علينا الحضارة المعاصرة سواء رغبنا بها أو لم نرغب، والقلة منا من يتوقف أمام هذه المفاهيم ليس بدافع المواجهه أو الرفض ولكن بدافع التفكر وأن يرى وبدقة أين موقعه من حضارة ضخمة تكاد تلتهم كل خصوصيته وثقافته وإنتماءه بل وملامح شخصيته.
أنت والحضارة يعنى أن تتوقف قليلاً وأن تحدد مكانك وإنتمائك ورغبتك وعدم رغبتك، ألا تترك نفسك تسير وفق تيار حددته لك حضارة مُسبقة الصنع ومتقنة الصنع وفائقة الجاذبية.
المثير للجدل والتساؤل بنفس الوقت، هو هل كل ماتقدمه لنا الحضارة يجب أن يكون مقبول؟ وهل يحق لأي منا أن يقول لا هذا لا يعجبني ومن حقي أن أكون ذاتي؟ وما الذي يحدد حضارة أي شخص هل هو تنفيذه لما يجب أن يكون أو قيامه بما يرغب بأن يكون؟
الحضارة بمفهومها التطوري والإبداعي تُسهم بتطويرالإنسانية جمعاء وتتحول لميراث تاريخي لكل البشر؛ ولكن الحضارة بمفهومها المادي المتجاهل لأي خصوصية ثقافية أو عرقية أو نفسية تصبح نمط قسري للحياة ليس بفرض نفسها بالقوة ولكن بالضغط الفكري والنفسي الذي تمارسه على الفرد أو المجموعة. أخطر ما يتعلق يالحضارة هو أن تختفي الملامح الخاصة لكل فرد ، وأن لا يملك القدرة على التفكير والتمعن بكل ما تقدمه الحضارة له ؛ لأن الحضارة لا يعنيها رأي الفرد ولا المجموعة ما يعنيها هو التأثير والإستمرار تحت كل الظروف ولكن الفرد يدفع ثمن تأثره بحضارة ما سواء سلباً أو إيجاباً. ما يميز حضارة زمننا المعاصر بأنها شديد الإغراء، منعدمة الهوية ، تمتد على كل المساحات ولا تعترف الجنسيات ولا الفروقات، فيذوب الجميع بها، لدرجة تلاشي الملامح الخاصة للعرق والجنسية والهوية. ما يميز حضارة زمننا المعاصر بأنها حضارة مادية حتى الجذور تمنح القيمة للمادة قبل الفكر، وللأطماع قبل المباديء وتمنح نفسها كل الأعذار والمبررات لتكون قاسية فردية وأنانية ثم يقتنع الأفراد بأن هذا ما يجب أن تكون عليه الأمور.
السلبي في الحضارة المعاصرة أنها من أكثر الحضارات تسبباً بالكآبة والضعف النفسي لأنها لم تمنح القيمة للإنسان بل منحت القيمة لما يمتلكه الانسان وأقنعته بأن القوة مبدأ وهدف ونمط حياة بل تتحول القوة لتكون تعدي سافر أو صامت على الطرف الضعيف في معادلة الحياة، لذا تبدو أنها حضارة قوية مفعمة بالثبات ولكنها وبنفس الوقت تترك مواطنيها بحالة شرود وتردد وصراع يكاد لا ينتهي. لذا كان لابد أن تستعيد كلمة " أنت " حجمها أمام ضخامة حجم كلمة الحضارة، وأن تكون الانسانية هي أساس أي حضارة، فإذا فقدت الحضارة اسانيتها لم تعد حضارة بل نمط حياة قسري أو إختياري يتم ممارسته لزمن طويل أو قصير لكنه لا يترك بصماته على تاريخ البشرية، فكل المكاسب المادية لا يمكن أن تمنح تألق للروح ورقي للمفاهيم الأخلاقية، وكل حضارة أغفلت بل وسحقت المفاهيم الانسانية لن تفرز سوى تعاسة للفرد والمجموع حتى ولو إمتلكت المليارات في حساباتها البنكية.
أنت والحضارة يعني أن تحيا في الحضارة المعاصرة دون أن تُغفل ذاتك الصامتة والقابعة بصدرك، أن تختار وأن تنقح ما تختار، وأن يكون قرارك بما يجلب لك السعادة الذاتية وليس سعادة تم رسمها وتم تحديد مسارها وفي نهاية الطريق إتضح بأنها ليست سعادة بل إغراء بالمزيد من المال أو السلطة أو الجمال. في العالم الخارجي توجد حضارة واحدة نعرف جميعاً ملامحها، ولكن في عالم الانسان الداخلي هناك ميراث من الحضارات ، فإن اعتقد أن حضارته هي فقط ما يراه ويقرأ عنه فيفقد متعة عظيمة في الحياة وهي بناء حضارته الخاصة به، أن يكون له رأي وقناعات وأفكار، لا لأجل التشبث بها ولكن لأجل أن يكون له شخصية وهوية ومعالم في حضارة تكاد تجعله يتوه عن ذاته بأن تُقنعه بأنها هي كل الوجود؛ بينما هي جزء من الوجود.
فهل لابد أن تدافع عن حضارتك الخاصة؟ وهل يمكنك أن تمزج بين خصوصيتك الفردية وبين المفهوم الجماعي للحضارة؟ يمكنك دائماً أن تدافع عن حضارتك الخاصة ولكن داخل قوقعة مجتمعك المحدود لأنه من الصعب الدفاع عنها في مجتمع بأكمله قد يكون إختار أن يسير بنهج حضارة رُسمت له مُسبقاً. أما المزج بين ما هو خاص وما هو عام فهو من الصعب بمكان لأنه يتطلب إدراك عميق بالذات والهوية وبالأهداف، لذلك يبدو أن أكثر الفئات تأثراً بالحضارة المعاصرة هي فئة الشباب لأنهم لم يبنوا بعد هذا الإدراك العميق بالهوية والفئة الأخرى هي فئة أهملت مُسبقاً هذا الإدراك وأعتبرته لا يماشي التطور المعاصر. لا يمكن لأي منا أن يحيا دون أن يكون على إتصال وثيق بما يدور من حوله من تغيرات؛ ولكن التعقيد هو تلاشي الهوية الذاتية أو حتى القومية بمواجهة حضارة لا تفرض نفسها بالقوة كالسابق ولكنها تتسلل لبيت وحياة كل منا. أثرى الحضارت هي الحضارات التي أحتوت أنواع متعددة من الثقافات بل واللغات والعقليات، وأفقر الحضارات هي حضارة ترسم لتابعيها الطريق والهدف بل وطريقة الشعور الإكتفاء والسعادة لأنها تلغي الشخصية المتفردة، وتمر سريعاً أمام الإبداع ولا تعترف إلا ببنيتها المادية والتكنولوجية. حتى أن هذه الحضارة غيرت مفهوم كثير من البشر حول السعادة وأسبابها وكيفية الوصول إليها رغم أنها منحتهم تسهيلات عظيمة للحصول على سعادة ما. ولكن كل الوسائل المادية لايمكن أن تمنح نفس هادئة مطمئنة منسجمة مع واقعها دون عودة متأنية متأملة للذات والهوية والمعتقد والإنتماء.