اشتكت بعض السيدات العربيات الناشطات في منظمات نسوية من وطأة نون النسوة وثقلها على اللفظ في لغتنا وتصدت "الفيمينستات" المتعصبات لذمّ هذه النون الجميلة شبيهة القمر حين يحتضن نجمة الصباح إينانا، وطالبت متحمسة من بين المجموعة الغاضبة بإلغاء هذه النون والتخلص منها لاعتقادها بأنها تنطوي على نوع من التمييز اللغوي بين الذكور والإناث، وفي الضجة التي صاحبت مقترحهن، قدمت أكثرهن صخبا وغضبا براهين تسند ادعاءها من آراء بعض الأكاديميين الغربيين التي تقول بوجود “تمييز بين المذكر والمؤنث في اللغات السامية”.
يتناقض موقف هؤلاء النسوة العربيات مع نضال النسويات الغربيات الساعيات إلى تأنيث لغة الخطاب التي ظلت تتوجه إلى المذكر طوال العصور، واقترحن صيغة تخاطب الجنسين معا “له/ لها، معه/ معها، إليه / إليها.. الخ”، وكان لهن ما أردن.
تأكد لي حينها وأنا استمع إلى "الفيمينستات" أنهن لم يطلعن على كتابات الباحث الراحل هادي العلوي مؤلف المعجم العربي المعاصر وهو العارف المتعمق بأسرار لغتنا العربية وكنوزها فقد ذكر “إن تقاسم التذكير والتأنيث بين مفردات اللغات السامية وأدواتها مناصفة إنما يعود إلى المكانة التي تمتعت بها المرأة في الحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآرامية والفينيقية وهي حضارات شرّعت في بواكيرها لنظام المشتركات الاقتصادية الأولى، ومن تلك النظم الأولى احتفظت المرأة بمكانة مرموقة ظهرت بوضوح في التشريعات التي اعتمدتها تلك الحضارات كما انعكست على ظاهرة التأنيث في اللغة وهي ظاهرة تفتقر إليها الكثير من اللغات الحية في عالمنا.
ويعرف المهتمون باللغات السامية مدى موازنة هذه اللغات بين الوجود الذكوري والأنثوي، بل إن لغتنا العربية وهي أكبر اللغات السامية وأكثرها اكتمالا وأحدثها من حيث الظهور، تؤنث معظم ظواهر الطبيعة كالشمس والسماء والكواكب والمجرة والأرض والعواصف مثلما تؤنث الأحداث الكبرى في الحياة الإنسانية كالحرب والهدنة والاتفاقية والمعاهدة والسلم، ولا تتوقف عند هذا الحد من غلبة التأنيث فتؤنث الحكومة والوزارة والمملكة والامبراطورية والمدينة والسوق والمكتبة والمستشفى والمدرسة والجامعة والأكاديمية، وتمضي إلى أبعد من ذلك فتؤنث معظم جموع التكسير المتداولة في لغتنا الفصحى والعامية كالأنهر والوديان والأنجم والأوجه والأقوام؛ ففي المعجم العربي المعاصر نجد أن أعضاء الجسم تتقاسم مناصفة التأنيث والتذكير، وهذا ما لم تعرفه النسوة الغاضبات اللواتي جاهرن بعدائهن لنون النسوة، فقد جانبن المروءة في الحكم على اللغة من وجهة نظر الآخر الغريب والتفسيرات القائمة على ربط لغتنا بكل ما هو ذكوري عنيف وقاس دون البحث في جذور اللغة وفهم طبيعتها والوقوف على أصولها الحضارية.
وفي الرد على محاولات إلغاء نون النسوة ممن يجدون في الغرب وحده أنموذجا للتحرر فإن هؤلاء الموهومين يخالون التحرر المجتمعي في التطابق مع الذكورة ويحصرون موضوعة تحرر المرأة بإلحاقها بالرجل مصدر القوة والفعل في المجتمعات الغربية، إذ تتنازل المرأة عن اسم عائلتها وتتخذ اسم أو لقب زوجها بينما تحتفظ المرأة العربية بلقب عائلتها وهذه ميزة تقف ضد الإلحاق الذي تفرضه القوانين الغربية.
لقد تعاظمت الذكورية في مجتمعاتنا في الفترة العباسية والأموية حين اتسعت الدولة وازدهرت اقتصاديا وتوسعت جغرافياً وجيء بالجواري والمستعبدات والمحظيات من أطراف الإمبراطورية الإسلامية إلى حواضر الخلافة وقصور الخلفاء، ففقدت النساء الكثير من مكانتهن المرموقة التي حفظتها لهن التشريعات الأولى، قبل أن تتعرض هذه التشريعات إلى تفاسير المتفقهين التي توافق أهواء السلطة وتخدم ديمومتها ومصالحها واستمرار نفوذها.