تخيل أنني جزء معلق في أحد أطراف برج عالٍ جداً حجمه لا يزيد عن الواحد من المليون من حجم المبنى، وأنا أعلاه الذي يرتفع عن الأرض بمئات الأمتار، فهل سيلاحظ أحدهم من هو هذا الصغير الذي في الأعلى؟ هذا هو أنا.
أعتقد أنني لا أحكم على أحد، لكننا نجد ما يجذبنا ويسد نواقصنا، هو فقط هذا البرج العالي، وكل الأشياء الصغيرة تلك ما هي إلا إكسسوارات إضافية لا قيمة لها بجانب هذا العملاق، هذه هي نظرة المجتمع في علاقاته التي يحكمها المظهر وأسلوب الحوار وأحياناً طبيعة الجنس، فالتقدير انحصر في ملامح دون النظر إلى هوية الأشخاص وكينونتهم.
حاول أن تجمع كل الأشياء في غرفتك من جديد، عادة سيتساقط منها أشياء صغيرة ستختفي تحت أي مكان، وسيمر الزمان وستأتي لحظة تفتح فيها هذا المكنون الخفي "ياه! إنت مش متخيل دي كانت ضايعة منّي من امتى!"، احذر أن تفقد أشخاصاً يبدو عليهم الصغر بسبب خوفهم أو طبيعتهم الانطوائية وليس ضعف إمكانياتهم، ويأتي الزمان الذي تتمنى فيه عودته وامتلاكه من جديد.
أنا الكامن داخل هذا الإشعاع الكوني الذي أحب أن أكون خلية صغيرة دون أن يمتزج بأخرى وحيداً، لكنه مصدر للحياة، ومصدر للطاقات بأجمعها..
عاهدتني أن أكون جميلاً لا يأبه لتلك التشوهات التي ضاقت على كل ما هو جميل لكني مُستنزف من نفسي ومن كوني، أحاول أن أخلق طاقتي لكي أُستنير فقط.. لكن الظلام أطفأني.. وأصبحت داكناً.
حاولت أن أجاهد ذل هذا الظلام وأناملي لم يكتمل نموها بعد.. ارتميت بين أحضاني.. لكن وجدت يديّ قصيرتين لا تضماني.. فطلبت نجدة البعض.. فخبث حمايتهم جعلني فريسة لهم.. وأصبحت لا أستطيع أن أصدق نفسي.. فوجدتهم هم الأقرب وأصل الأمان.. فتنحيت عني وأصبحت عدمياً دون جدوى وسط هذا الحبل الضيق حول عنقى.. فغادرت.
أتخيل هل سيعلم أحد بموتي؟ هذا هو السؤال الذي يراود بعض المنتحرين، والإجابة القاطعة لا؛ لأنهم لم يظنوا يوماً أنهم في نظر بعض الأشخاص برج عالٍ، وأنهم تلك القطعة الصغيرة التي ضاعت وينتظر احتمالية أن يشعر أحد بفقدانه.
أرجوك لا تنسَ مَن هم حولك، فربما تُفاجأ بفقدانهم، الأيام معدودة، والوقت محسوب عليك، إلا إذا كنت تشعر بالاكتفاء، لكننا يحتاج بعضنا لبعض، لا تتخلّ عني ولن أتخلى عنك، لا تكن محوراً لكل التجمعات أو نقطة جذب، بل أعطِ مساحة للآخرين، فربما ينقصون واحداً تلو الآخر إذا ظللت محور الكون وتظل وحيداً في النهاية.
إن مرض الاكتئاب هو من أكثر الأمراض انتشاراً على مستوى العالم، لا تنخدع في ضحكة أحدهم؛ لأنه كلما علت أصواتهم فرحاً فهذه هيستريا الاكتئاب؛ لأننا دائماً ننخدع من حكمنا حسب المظهر، "ده باين عليه مرتاح ومبسوط".
ليست كل الملامح متشابهة، فالفقدان بدأ لذاته قبل أن يفقد من حوله، والانطواء والوحدة أفضل له من أن يظل يحاول يطلب المساعدة ببعض التلميحات، على الرغم من أن نسب الذكاء الاجتماعي تختلف من البعض للآخر. لكن الأصعب أننا أصبحنا لا نخرج من ذواتنا ونريد جعل العالم يلتف من حولنا.
اخرج من دائرة ذاتك واعبر من قلبك للآخر. فهذا هو قمة البذل، فحياة أحدهم قد أوشكت على الاضمحلال، فلا تدع الفقدان يظهر على مشاهد حياة هؤلاء، ربما حينما تبدأ فقط بالطبطبة تنقذ نفساً من غرقها في بأسها، فطاقات الاهتمام تكون بسيطة، من لمسة أو ابتسامة تقول أنا أراك بالفعل، أنت حاضر.. أنت موجود.. أنت حي.