لَمْ يأبه بِمَا جُبلَ عليه مِنْ يتمٍ مبكر، صاحبه جنباً إلى جنب فقرٍ مدقع، فضلاً عَنْ مَا يخالجه مِنْ شعورٍ خفي بالغربة؛ إذ قدر له أنْ يجد نفسه بعيداً عَنْ أقرانِه مِنْ أبناءِ قريته، فلَمْ يَعُدّ يقوى فِي صِبَاه - وَهو التائه وسط ليالٍ حُبلى بطعْمِ الجوعِ وَالحرمان - عَلَى مواجهةِ آثارِ رياح البسيط مِنْ عواصفِ الحياة، بعد أنْ أضنته آهات عزلته، وَأحزنته قناعته فِي افتقاره إلى مَا بوسعه أنْ يؤنس وحدته عَلَى خلفيةِ تخلي نظرائه عَنْه بفعلِ نظرتهم الدونية المتأتية مِنْ سيادةِ السيء مِنْ الأعرافِ الاجْتِماعِيَّة، وَأكثرها إذلالاً للإنْسَانِ فِي أروقةِ البيْئَة الَّتِي يعيش فِيهَا.
فِي ظلِ مَا تملكه مِنْ احساسٍ عاصف، يلزمَهُ بوجوبِ الهروب مِنْ وحشةِ وحدته، قطع عهداَ عَلَى نفسه بأنْ لا ينحني فِي زحمةِ هَذِهِ الدّنْيَا؛ لأجلِ دفنِ وحدته ومرارتها اليومية، وَالتغلبِ عَلَى مَا ألم بِه مِنْ الإحباط، وَالَّذِي ألزمه الانزواء فِي مرمى الشعور مِنْ كونِه مجرد بقايا إنسان يحمل فِي ذاتِه مَا لا يحصى مِنْ مواطنِ الشعورِ بالخشيةِ مِنْ قادمِ الأيام بسببِ فاعليةِ صدى الحكايات الَّتِي تتناسل مِنْ رحمِ أزمته، فَعمدَ جاهداً فِي الركونِ إلى ممارسةِ بعض السلوكيات الَّتِي تقوم عَلَى عرضِ مهاراتٍ مبتكرة بقصدِ ايهام مَنْ حوله بِمَا تحمله مِنْ معانٍ رمزيّة فِي امتلاكِه لقوةِ الشخصية؛ سعياً فِي محاولةِ انتشال ذاته مِنْ مستنقعِ الهزيمة.
بعد أنْ أسَرَّهُ بعضهم أَنَّ كلَّ تركة عائلته لا تتعدى مأوى قديم أقرب لزريبةِ حَيَواناتٍ مِنه إلى المنزل، وَالَّذِي شُيده أباه مستخدماً الطين وَالقصب - بأسلوبِ الترجي وَالتكافل - عَلَى أَرْضٍ ليس له حق التصرف فيها أو اسْتِثْمار ما مُتَاح مِنْ منافعِها، لَمْ يكترث لِمَا طرق سمعه، وَلَمْ يحيد عَنْ مَا اختطه مِنْ مسارٍ لتنظيمِ حياته وَضمان وجوده الإنساني؛ لقناعته التامة بتعذرِ عيشه بشكلٍ آمن مِنْ دُونِ تجاوزه لِمَا تسرب إلى نفسه مِنْ المخاوفِ القسرية بكُلِّ تفاصيلها غير القابلة للاجتزاء، بَيْدَ أنَّه حين اشتد عضده شعر بالخَواءِ مِنْ ألمِ الفجيعةِ لحظة مواجهة الموت مأزوماً بِمَا ورثه عَنْ أبيه مِنْ عارٍ مَا انفك عَنْ ملاحقته بالاستنادِ إلى موجباتِ قانونِ القبائل؛ لإقرارِه بهزيمةٍ نكراء فرضها عَليه وَهنه أمام سطوة قاتل أبيه.