الإنسان وبرغم حقيقة كونه سيد المخلوقات على الأرض ، واستخلافه من قبل الخالق عز وجل، الا انه يبقى ضعيفا أمام المجهول ، وأحداث المستقبل هي اهم صورة من صور المجهول بالنسبة اليه ، فكان هاجس البشر منذ الازل معرفة المستقبل اتقاءا للشرور او الاحداث المؤلمه ورغبة بتحقيق مزيد من القوة والنجاح ، لذلك كان للمنجم او كاهن القبيله في العصور القديمه دور متقدم في مجتمعه يلجأ الناس اليه لمعرفة المستقبل وللمشوره ولتصويب اوضاعهم ، وما زالت الامور الفلكيه والروحانيه تستأثر باهتمام الناس في العديد من انحاء العالم وليس ادل على ذلك من بروز اسماء عديده لشخصيات تقتات على سذاجة قطاع كبير من الناس ، فنرى قنوات فضائيه تخصص لتلقي استفسارات لاشخاص يودون معرفة طالعهم او امورا شخصيه تخصهم كالصحة والزواج والعمل ، ونرى في الاسواق العديد من الكتب التي تصدر تباعا كل عام تحوي تنبؤات للعام الجديد وخصائص الابراج الفلكيه.
من بين كل تلك الوسائل التي يلجأ اليها الناس لمعرفة المجهول او لاستقراء مستقبلهم يبرز موضوع تفسير الاحلام ، يتعاطاه البشر على مختلف العصور ويؤمنون بان احلامهم تمثل بعدا آخر من ابعاد زمنهم ورسائل من المستقبل ، ومن اشهر الاحلام التي خلدها التاريخ وذكرها القران حلم النبي يوسف عليه السلام الذي انبىء بخاتمة قصته مع اخوته بعد رحلة العذاب واجتماعه باخوته ووالديه بعد فراق طويل ، كذلك حلم ملك مصر الذي رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف والقصه معروفه للجميع ، وقدرة يوسف على استقراء مشاهد الحلم المذكور وقيامه باستخدام دلالاته على ارض الواقع من، وضع خطة لاستثمار الغلال والاستعداد لسنوات القحط والمجاعه، كل ذلك اهله ليكون امينا على خزائن مصر ، ايضا رؤيا النبي ابراهيم عليه السلام في انه يذبح ولده اسماعيل ، ولا تخلو الكتب من ذكر لرؤى واحلام لقادة ومشاهير كانت لها دلالاتها المستقبيلة الخاصه ، من هنا فان مسالة التعاطي مع الاحلام بجديه لا تقتصر على ثقافة دون اخرى او ديانة دون ديانه ، بل اصبحت دراسة الاحلام في وقتنا الحاضر لها مدارسها الخاصه وحظيت باهتمام علماء النفس على اختلاف اساليبهم .
وبسبب موروثات دينيه فاننا كمسلمين نتعاطى مع موضوع تفسير الاحلام بكل جديه واهتمام ، ولدينا تقاليد في تفسير الاحلام وتقسيمها الى انواع ومراتب ، فهناك رؤيا من الله وحلم من الشيطان وحديث النفس ، واعتمادا على احاديث نبويه شريفه مثل ( ذهبت النبوات وبقيت المبشرات) وحديث ( لم يبق من النبوة بعدي الا المبشرات ، قالوا ما هي يا رسول الله ، قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن او ترى له) ، وللرؤى عند اهل العلم آداب واصول كتقليم الاظافر والنوم على الشق الايمن ، وكلنا سمع بمحمد ابن سيرين التابعي الفقيه صاحب العلم الواسع والدراية بتفسير الاحلام .
لقد اثار اهتمامي كتاب العلامه العراقي علي الوردي وعنوانه ( الاحلام بين العلم والعقيده) ، ففيه يتفرد الوردي كعادته بتمحيص كل ما يقع تحت يديه من معلومات حول موضوع البحث ليخرج بنتيجة قد تصدم الكثيرين وقد تلقى القبول والاعجاب من آخرين ، وليس ذلك بغريب على مفكر من وزن الوردي الذي بقي حتى مماته مثار جدل بسبب آرائه الجريئة والفت العديد من الكتب في الرد عليه .
في كتابه المذكور يلخص الوردي اهمية الاحلام عند الشعوب القديمه وعند المسلمين خاصه ،ويورد قصصا عن قيام البعض باختلاق رؤى كاذبه في سبيل تحقيق ربح مادي او استجلاب منفعه اجتماعيه ، كما ذكر اختلاف مواقف الفرق الاسلاميه من موضوع الاحلام ، فالمعتزله شذوا عن بقية المسلمين في امر تقديس الاحلام ،فهم بوجه عام يثقون بالمنطق والعقل الواعي ثقة كبيرة ورأيهم في الاحلام انها اضغاث احلام واوهام ، ودليلهم في ذلك ان الادراك الصحيح لا يتأتى للانسان الا في اليقظة حين يكون العقل في عنفوانه ،اما المتصوفة فكانوا على العكس من راي المعتزلة تماما ، فهم يعدون العقل منبع الاوهام والاباطيل ، ويرى بعض المتصوفة ان النوم يقظة واليقظة نوم . فالنفس البشرية مشغولة اثناء اليقظة بصور المحسوسات وهموم البدن وهي عندئذ نائمة لا تفهم سوى ما يأتي به الحس من اوهام واباطيل ، اما في النوم فيتجلى عن بصرها الغشاء وتحلق في سماء المعرفة طليقة لا يشغلها شاغل . ولابن خلدون راي في هذا الموضوع فيقول ( ان الانسان اذا اعد نفسه قبيل النوم اعدادا نفسيا في سبيل فكرة معينه ، فانه سيرى تلك الفكرة في منامه ويستفيد منها ، فالنفس البشرية اذا تشوقت الى شيء قبيل نومها وقع لها في المنام ما كانت متشوقة اليه .
اما الفيلسوف الاغريقي ارسطو طاليس فقد امتاز من بين المفكرين القدماء بانه درس الاحلام دراسة موضوعيه وجردها من تدخل الالهه ، وبحسب الدكتور الوردي فان ارسطو يمكن اعتباره اول زنديق نظامي من هذه الناحيه وهو يقول ان معظم الاحلام تنشأ من مؤثرات حسيه فكثيرا ما يخالج الانسان شيء من الالم واللذة اثناء يقظته ولكنه لا يهتم به لانشغاله بهموم الحياة فاذا نام ظهر له ذلك في احلامه واضحا ومعنى هذا ان الحلم يحول الاحساسات الخفيفة الى احساسات مكبرة . وتتمثل عظمة ارسطو الفكرية عند تعرضه للرؤيا الصادقة ، وهي الاحلام التي تتحقق فعلا بعد رؤيتها في المنام ، ويقول ارسطو ان تحققها الفعلي لا يدل على صحة تنبئها بالغيب كما يقول افلاطون وغيره ، انما هو يرجع الى عوامل اخرى لا صلة لها بالروح او تدخل الالهه .
وفي قسم آخر من الكتاب يستعرض الدكتور الوردي الآراء الحديثة في الاحلام فيقول ان نظرية ارسطو كانت اول نظرية قديمة تجرد الاحلام من صبغتها الروحيه وتحاول تفسيرها تفسيرا ماديا وقد ماتت هذه النظرية في العصور القديمة ، حيث لم يأخذ بها سوى الزنادقة وبعض ارباب النظر العقلي ، اما عامة المفكرين فقد أخذوا بالنظرية الروحية المعاكسة . وفي العصر الحديث انتعشت نظرية ارسطو من جديد وآمن بها كثير من الباحثين ، وصارت النظرية السائدة بين المثقفين قبل ظهور نظرية فرويد .
يقول فرويد ان الاحلام هبة من الله ، فهي عملية تهريب للرغبات المحرمة ، وهي تلجأ في سبيل ذلك الى لف بضائعها الممنوعة بحزم خداعه لكي تخفى عن اعين الرقباء ، ويعلق الوردي ان هذا القول يذكره بقول احد الزهاد المسلمين ، فقد شوهد هذا الزاهد ذات يوم وهو يشكر ربه كثيرا ، فلما سئل في ذلك اجاب : بانه استطاع ان يقترف جميع الموبقات والذنوب الكبيرة عند النوم دون ان يحاسبه الله عليها ، فهو يزني ويسكر وينهب الاموال وينتقم من اعدائه ، ثم يستيقظ فيجد صفحته بيضاء لا دنس فيها ، وهو يحمد ربه على هذه النعمة التي منحه اياها بلا ثمن . ويسهب الوردي كثيرا في استعراض جوانب المدرسه الفرويديه في تحليل الاحلام والمجال لا يتسع هنا لذكر المزيد ، الا انني اود ان اذكر فقرة اوردها الدكتور الوردي نقلا عن الاستاذ سلامه موسى ينصح القارىء بأن لا يروي حلمه - مهما ظنه بريئا- لاحد الا اذا وثق باخلاقه ، فالحلم قد يخفي رغبة دنيئة لا يجوز الكشف عنها .
واختم مقالي برأي للوردي يقول فيه ان الشعوب تحلم كما يحلم الافراد ، فكتاب الف ليله وليله مثلا ليس سوى مجموعة من الاحلام الشعبية ، وهي بصفة خاصة احلام الفقراء الذين يجوعون الى المرأة الجميلة والقصر الفخم والطعام اللذيذ ، ويظن ايضا ان عقيدة ( المنقذ الالهي ) ليست سوى حلم راود الشعوب القديمة في بعض مراحل تاريخها ، فالشعوب حين تتألم من ظلم حكامها ، ثم تشعر بالعجز عن ازاحة ذلك الظلم الواقع عليها ، تأخذ باعتناق عقيدة الانقاذ الالهي ، وعندئذ تتخيل مجيء يوم يرسل الله لها من ينقذها وينتقم لها من اعدائها ، فتملأ الارض عدلا بعدما ملئت جورا ، وصدق من قال :الاساطير تمثل احلام الشعوب