الموت.. تلك النسمة الخفيفة التي تزور النبتة دون استئذان، لتكسرها وتمضي.. أو تلك العاصفة التي تأتي على الأريج، ثم الجذر، ثم تنبش الأرض لتقتلع النبتة بعنف. وسواء كان نسمة أو عاصفة فلا اسم له سوى الموت. يغذّي فينا الصبر؟ ربّما.. لكنه يقتلع منّا في كل مرّة حياة.
أن يموت بائع الحلوى في الحيّ، فهو أمر عابر سريعا ما يمرّ دون أن نحسّ به. لا نتذكّر أطفاله اليتامى، وفقرهم وخصاصتهم من بعده. أن يموت حارس البناية، فهو أمر عابر أيضا، سيعوّض الرجل بحارس آخر، ولن يكون لأبنائه شيء أكثر من الحزن ليملئوا به جيوبهم. إنه فقدان الذاكرة السريع عند موت غريب بسيط، لا حول له ولا قوة. فأطفاله لا يملكون المال لنشر نعيه في الصحف، ولا هو كسَب صيتا ليترك ما يذكره الناس به.
أن تموت راقصة معروفة، ستسقط الدموع مدرارا في جنازة لا مثيل لها. سيأتيها الطامة والعامة، وحبذا لو تكون راقصة لم تعتزل عملها لآخر لحظة في حياتها.
أن يموت فنان اعتزل منذ سنوات، أو غمرته الأيام مع كبر سنّه أو مرضه، فهو خبر عابر، قد يرمى مصادفة في ركن من جريدة.
لكن، حين يموت فنان مشهور، أو سياسي معروف، أو رياضي كسر الرقم القياسي ألف مرّة، فستقوم الدنيا ولن تقعد. فهؤلاء دائما جزء من الخارطة العامة للوطن، مثلهم مثل الأنهج أو الشوارع الرئيسية، لا يمكن عدم العبور منها.
وحتى حين يموت إرهابي، مات على يده سياسي معروف، سيبقى حديث الساعة حتى بعد دفنه. وسيكسب شهرة أكبر مما عرفها قبل ذلك.
من قال إن الموت لا يفرّق بين الناس فهو مخطئ، فالجنازة التي يخرج فيها الشعب برُمّته، لا تشبه جنازة يجلس فيها الأب وحيدا. والجنازة التي تعبر فيها السيارات شوارع العاصمة، لا تشبه تلك التي تقطع الطريق من بيت الميت نحو المقبرة في عشر دقائق.
من قال إن الموت لا يفرّق في المقامات فهو مخطئ، فالمناضل الذي يموت برصاصة قنّاص يصبح شهيدا، والقنّاص الذي يموت على يد رجل الأمن يسمّى إرهابيا، وحارس البناية الذي يموت مصادفة هو مجرّد رجل قد مات.
الموت.. كلمة تعبرنا كلّ يوم، لا تستأذن أحدا، فالله حين يزرع الحياة في رحم أمّ يكتب لها من العمر ما قدّره، فلماذا نفرح بالروح التي وضع الله في هذا الرحم ونحزن حين يسترجعها؟ ليس الموت إذا ما يوجعنا، إنه ما نُسمّيه "الفراق الأبديّ" حتى يحين موعد اللقاء.