تبرز أهمية خروج مشروع الدستور الليبي كحدث تاريخي في حياة الليبيين في مدلوله السياسي بعد ألغاءٍ لدستور 1951 الذي خرج قبل اعلان الاستقلال بفترة ، ذلك الألغاء أعلنه بيان يوقف العمل به ساعة انقلاب 1969 ، دستور الاستقلال صاغته نخبة مُختارة من أقاليم البلاد الثلاث (طرابلس، برقه ، فزان) ، بالاستعانة بخبرات عربية وغربية ، وبرعاية أممية فليبيا وقتها كانت دولة الامم المتحدة اذ خرجت كبلاد منكوبة وسُجلت كأفقر دولة في العالم فمن نير الاستعمار الايطالي الى حكم إدارات استعمارية أجنبية بريطانية فرنسية أمريكية ، عقب الالغاء قضى الليبيون اثنين واربعين عاما تحت قوانين وبيانات خضعت للمزاج السياسي للنظام السابق ، لا حياة دستورية يتوافق الشعب حولها بل شِرعةٌ أطلقها فرد حاكم ! تمثلت في نظرية عالمية ثالثة مُنهجت في كتاب أخضر ، وخطابات منبرية طويلة تعقبها بيانات يستلزم حفظها عن ظهر قلب ثم يجري شرعنتها قانونا : بيان سلطة الشعب ! ، قانون تعزيز الحرية ، وبيان الوثيقة الخضراء...وهلم جرا ، من يُطالعها يتلمس شطحها المثالي صارخة بأقرارها العالي للحقوق والحريات الأنسانية لكنها على أرض الواقع تُصدر حكما بالاعدام لمن يؤسس حزبا بل من يتحدث عنه أصلا ، وخطوطها الحمراء كما السيف القاطع المُشهر لمن يمس فقط اسم رأس النظام !.
اليوم يتلقف الليبيون دستورهم كآخر دستور يخرجونه للعالم ، في لحظة زمنية فارقة أعقبت مخاضا عسيرا وصعبا منذ حدث ثورة 17 فبراير 2011 ، والتي في مبتدأها خاضوا انتخابات تشريعية وهي أيضا بعد قطيعة طويلة ، وليحقق تيار مدني يتطلع لدولة القانون والمؤسسات أغلبية مقاعدها كانت على التوالي انتخابات : المؤتمر الوطني العام ، مجلس النواب ، اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور ( لجنة الستين )، لكننا نحصد رفض نتائجها الديمقراطية، بسيطرة تيار المغالبة بالسلاح من أخوان ومقاتلة ،ومليشيات منتفعي الحروب والاوضاع الانتقالية وُجدت في خضم انتشار السلاح ، ومن يجري شراؤها بالمال لأجل مغانم ومطامع آنية .
وإذ يُحاذي الاعلان عن مشروع الدستور الليبي في جدة خروجه كما وقبله أخرجت دساتيرها الجديدة دول الانتفاضات العربية ،وقد تسلمته من لجنته المؤسسات الرسمية الليبية من مجلس رئاسي ، ومجلس دولة الى مجلس النواب والذي عليه قريبا مخاطبة الجهات الرسمية ذات العلاقة وعلى رأسها المفوضية العليا التي ستشرع في تطبيق آلية هيكلية على مستوى البلاد للشروع في عملية الاستفتاء،واتخاذ الإجراءات اللازمة وفق الإعلان الدستوري وتعديلاته، فأنه ومن لزومٍ حاصل استقبالُ أية مسألة ليس لها أرضية مُسبقة بنوع من التحفظ ، وكما تحتمل أن يحصل اختلاف حولها بين مؤيدين ومعارضين فما دار ويدور حول رفض لبعض مواد الدستور ومنها من ينادون بتشريع يحفظ أقليمية الدولة (التكتل الفيدرالي ) ولا يعزز مركزيتها ، بمقابل من رأى أن الدستور في مواده حفظ وحدة البلاد ، كما وتجاذبات بدأت مبكرا بين لجنة الدستور والمكونات من أمازيغ وتبو وطوارق طالبوا فيها بدسترة اللغة واعتبروا أن الدستور بكامله لا يُمثلهم إن لم يجري ترسيم ذلك ضمن مواده.
وعلى ذلك فإن مشروع الدستور وقد خرج يستلزم أن تنهض جلسات حوارية ونقاشات مجتمعية مفتوحة لتوعية الجمهور بما يمثله الدستور من أهمية حين يشرعون في الاستفتاء على مواده عن معرفة وأحاطة ، ورغم أن الدستور مشروع وطني يشغلُ ويعني كل الناس إلا أنه في مكنة القانونيين والحقوقيين والاعلاميين الأطلاع بمسألة الارشاد والانارة لكثير من مواده.