حين أطلقتَ أولى صرخاتك في هذا العالم، ومع دخول أول نفس إلى رئتيك في ذلك الوقت تحديداً، كانت بداية المعرفة.
كبرت تلك المعرفة وذلك الحب الذي لم تختره بداخلك كلما كبرت ونما كلما نموت! كبر مع صباح كل يوم، مع الفطور الذي تعدّه والدتك وكوب الحليب الذي طالما أُرغمت عليه.. في المدرسة والحقيبة والدفاتر والأقلام.. اللعب في الطرقات والسهر ليلة الخميس أمام شاشة التلفاز.
في المدرسة، عرفت اسماً لذلك الحب، وجدت أن له معنىً مسطَّراً على صفحات الكتب، وكُتبت له الدواوين وتنافَس على وصفه الشعراء وأُنشدت له الأناشيد.. في المدرسة قالو إن اسمه "الوطن"!
في ذلك الحين، كانت كبرى مشاكلك تتلخص في واجبات المدرسة التي لم تنهِها.. الدفتر الذي نسيته وتخشى وقوفك وسط الصف بين نظرات تحيط بك وتأنيب المُعلِّم.. علبة الألوان التي أضعتها وهي جديدة وتخشى مواجهة والديك بتلك الحقيقة وأنك بحاجة لواحدة جديدة.
ليتك توقفت عند تلك النقطة.. ليتك لم تدرك ما يدور حولك.. ليتك أبقيت على حبك الصغير للتفاصيل الأصغر.
ولكن.. هناك وجه مظلم لذلك الحب.
معرفتك ذلك الأمر قد بدأت عندما رأيت كيف تستعد المدرسة لزيارة أحد الموجِّهين.. ذلك الخلل والاضطراب والجري في ساحات المدرسة وجمع الطلبة المتفوقين وتفريقهم بين الطلبة.. حين أملى المدرس على الفصل تلك التعليمات وحين كان أحد الطلبة يقوم بتصحيح الدفاتر المتأخرة وآخر ينظف الفصل.
هناك خطأ في مكان ما.. ولكن ما هو؟
انتقلت إلى مرحلة أخرى حين أُجبرت على أن تذهب للمجموعة الخاصة لذلك المدرس؛ حتى تحصل على درجاتك وتنجح في المادة وإلا فإنك ستكون محل استهزاء وإهانة دائمة في الدرس!
ذلك اليوم وقد جاوزت السادسة عشرة وأصبح من حقك بطاقة تحقيق الهوية وقولك بين زملائك إنك أصبحت تُحسب على الدولة من الآن وصاعداً.. كان لديك فخر وسعادة يومها وربما رفعت وجهك وأنت تمشي في الطرقات وإحساسك بأنك لست صغيراً وتتمنى لو يجري الوقت وتصل إلى الثامنة عشرة؛ حتى يصبح لك صوت انتخابي وتشارك في قرارات الدولة.
ولكن، سرعان ما أهلكتك تلك الطوابير وأطفأ بريق عينيك حالة الناس من حولك وشكواهم وكذلك تصاعد أصواتهم مع الموظف على الشباك الذي كان يتفنن في التأخير وفي إثارة غضبهم بطول باله وهدوء أعصابه.
ذلك اليوم حين سألت والدك عن كيفية الانتخاب وكيف يترشح المرء لكي يكون رئيساً أو نائباً أو غيره.. وضحكة والدك غير المبررة ومحاولاته لانتقاء الكلمات؛ كي لا يصدمك الواقع ويُخرجك من براءة أحلامك إلى بشاعة الواقع.
- يا بني، سواء اخترت أو لم تختر.. أردت أو لم تُرد فالرئيس يظل رئيساً.. أنا مذ أصبح من حقي التصويت لم أمتلك صوتي طوال حياتي، لم أعرف غير رئيس واحد وسمعت عمن قبله من الرؤساء!
- ولكن يا أبي؟!
- أنت لا تملك حرية أن تقول "ولكن" يا بني.. لتمضِ كما مضينا وتصمت!
تتابعت الصدمات الموجهة إليك، وتفنن الواقع في أن يؤلمك.
ذلك اليوم حين قرأت كتاباً لفلان الذي شعرت وكأنه يقول الكثير من الأشياء التي لم تعرف كيف تقولها.. ذلك الكاتب الذي خَلَّف فيك أثراً كبيراً.. كم هو عظيم أسلوبه وفكره! لا بد أن لهذا الكاتب شأناً عظيماً.. من المؤكد أنه حصد العديد من الجوائز وجاب البلدان يشرح فكره..
لتُفاجأ بعدها بأنه مات منبوذاً بعد أن أمضى نصف عمره في زنزانته الفردية!
لا بد أن جدران تلك الزنزانة لا تُقدَّر بالذهب، من الأكيد أنها لم تحوِ فكراً واحداً؛ بل آلاف الأفكار من قبلُ.. ليتها كانت زنزانة واحدة!
كلما ازدادت معرفتك ازداد غضبك وازداد الألم في داخلك.. حين وجدت البلاد محتلة والأطفال تقلّ والأفكار خلف القضبان والجميع قد قال: نفسي نفسي.. أي واقع هذا؟!
حينها، انتقلت من الطفولة إلى الشيب... نعم، شيبك الواقع ولم يسمح لك بأن تعيش أجمل أيام حياتك كما يقولون.. ولكن، لنذكر بعض الإيجابيات أيضاً، فالشباب لا يملكون من أمرهم شيئاً؛ إذ إن الشيب هو سيد الموقف والقرار.. ولأن الأمر عائد لهم لم يمنحوك زمانك.
لم تحصل على تلك الوظيفة، لم تكن شهادتك ولا سنوات تعليمك كافية.. عليك أن تمتلك الواسطة المرموقة والشخصية عالية المقام والمنزلة.
أيضاً، فكرتَ العديد من المرات قبل أن تحضر ذرية لك لتعيش ما عشته أنت.. وتخبرهم أيضاً -كما أخبروك سابقاً- بأن أيامك كانت أفضل من أيامهم.
أنت أردت أن تغير الواقع، فقضى الواقع عليك وأطفأ بريق عينيك.. لم يكن حبك له كافياً، لم يكن إخلاصك وصدق مشاعرك شفيعاً لك.
نعم.. قتلك الحب!
قتلك ذلك اليوم حين خرجت تعلن حبك وسط الآلاف من المحبين وفاجأتك تلك الرصاصة التي أصابت موضع الحب بداخلك.
وألقاك الحب خلف الأسوار وكأن حبك جريمة تستحق أن تُعاقب عليها! وتركك تحت سطوة من لم يرحم شبابك ولا غيرتك ولا عنفوانك.
قتلك حين أفقدك الأمل ونزع منك تلك الشرارة وتركك تستسلم للروتين.. وقتلك مرة أخرى حين تركك هائماً في الطرقات تسير منزوع الروح.. لا يؤلمك الواقع ولا يسرُّك فأنت لم تعد تهتم قط.. ليمر ذلك اليوم أيضاً ولا تريد شيئاً آخر.