لم تتجاوز سنّي الواحد والعشرين عندما طرقت باب التدريس في الجامعة، كانت مفاجأة سارة لدى البعض، وفاجعة لدى البعض الآخر وظلّ أمري عند طلابي موضوعاً ميتافيزيقياً بالكاد استوعبوه.
والحقيقة أنّ لعبة التدريس هذه كانت مجرّد تحدّ رفعته ذات يوم، ولو كنت رجلاً لما أفلحت في بلوغه، فكلما تذكّرت الجور ذكرت أنّي لو كنت رجلاً لمارستُ هوايةَ الصفع والركل، ولتعرّضت للسجن مراراً أو للذلّ عمراً، ولمَا أكملتُ دراستي. كيف لا وقد صار عدوّ الرجل رجلاً!
عندما عدت بشهادتي لم أكن أبدو إلّا كطالبة سنة أولى رغم طول قامتي، وما زلت إلى اليوم أُطرد من قاعة الأساتذة إمّا باللسان أو بالعيون.
كم من رجل عاد ليلتحق بالجامعة؟! وكم امرأة خلّفت أولادها وواصلت تعليمها؟! وكم من طالب ألهمت؟! لو كنت رجلاً لما استجبت إلّا بالغضب في عالم تحتاج فيه إلى امرأة لتعبر، إنّه عصر النساء ولو كنت رجلاً لخسرت الآلاف من القضايا ولجهلتُ الكثير من الحقائق والتفاصيل، هو عصر التفاصيل أيضاً.
لو كنت رجلاً لما نبت في قلبي كلّ هذا الطموح، فطموح النساء في نظري أعظم من طموح الرجال، لو كنت رجلاً لما استطعت بناء قصيدة يتيمة وحياكة رواية قديمة بهذا القدر من الوجع، فأوجاع النساء عظيمة بحجم الإنجازات التي يحرّضها الألم، شهيّة كرغيف أفلت من أصابع فقراء نوتردام، لا منتهية كدوال الرياضيات، ممتدة كالتاريخ والأيام وطويلة كالحياة، جوعى هي أوجاع النساء كالفعل المتعدي على جسمها المفعول به وعميقة كمقام البيات.
ثرثارة هي أوجاع النساء كالوتر ورحّالة كالسندباد وكالغجر، لا تكاد تغادر بحراً إلّا وصادرت صمته وأحالت هدوءه البارد إلى الضجيج الدافئ وإقامتها الجبرية.
شجيّ هو أيضاً ضعف النساء ومذهل وميض دهائهنّ ومُنجّ ذكاؤهن، فكيف أكون رجلاً؟
لو كنت رجلاً لما ارتشفت من كوب الدهر كلّ هذه القوّة، ولما عرفت كيف السبيل إلى ذاتي، ليس لأنّ الرجال يجهلون دروب الذات، بل لأنّ النساء أثناء رحلتهنّ إليها يتعرّفن على الرجل فيهنّ، ويكتشفن أنّهن لسن مجرّد أطفال توزّع عليهم الحلوى هناك عند صحن الدار أو في زاوية من زوايا الشارع المنهار، وأنهنّ لسن مجرد إناث، وأنهن لسن مجرد فساتين، وأنهن لسن مجرد دموع بقدر ما هنّ الاحتواء في أقوى درجاته، والحبّ في أسمى معانيه، والقوة في أعلى معدلاتها التي تغيّر حالة المجتمع وتتحكم في اتجاهه وحركته، كيف لا ومنها يخرج إنسان ليلقى الحياة فتحتويه أمّاً وأختاً وزوجةً وبنتاً.
لو كنت رجلاً لما ذقت حلاوة التمرّد، ذلك التمرّد الذي أرسلني لأطارد طموحي بعيداً عن حِجر مسقط رأسي وأمنيات أترابي الصغيرة وتسلّط المجتمع المسكين، ولما استطعت الحلم، فالرجال قلّما يحلمون، الرجال يغادرون إلى المستقبل بالطريقة نفسها التي يدخلون بها الحرب، الرجال كثيراً ما يحرّكهم الأدرينالين بينما النساء يبحرن وبداخلهنّ الأمل كقارورة زجاجية من مرسى إلى مرسى ليصنعن الحياة، النساء يتزودن بعنصر الحب وهنّ في طريقهن إلى الحرب أكثر من الغضب، والرجال يتسلّحون بالغضب أكثر من الحب.
وقلوب النساء تتغذى على هرمون الصبر لدى إقبالها على الحياة، بينما يتغذى الرجال على النساء لكي يبقوا على قيد الحياة.
لو كنت رجلاً لما أدركت معنى القوة، فقوّة النساء تفوق غضب الرجال، ولربما ينطبق على الرجال قانون نيوتن الأول المتعلق بالقوة، فهم كالجسم الساكن لا يتحركون إلا بقوة المرأة، وكثيراً ما نجد موضوع الرجل امرأة، وكثيراً ما يعتقد أنها تتحداه حين تقرّر رفع أشرعتها والإبحار إلى ذاتها فيحدث قانون نيوتن الثالث وتتنازع القوى.
قرأت ذات يوم قول أحدهم: "الرجل يخاف المرأة الجميلة والذكية في الوقت نفسه؛ لأنها تملك سلاحين وهو لا يبارز إلا بواحد".
ماذا لو كنت رجلاً؟ إن سيوف الرجال لم تعد تقوى على مبارزة جمالها، فكيف بالله عليكم يتورطون في معركة مع ذكائها وسيف الكاتانا الخارق يحتاج لأن تكون واحداً من محاربي الساموراي، أفلا أكون امرأة وأتقّي كيد النساء؟ أنا لو كنت رجلاً صدقاً لما عرفت النساء.
وقرأت لجبران ذات يوم قوله: "تسلك المرأة طريق العبيد لتسود الرجل، ويسلك الرجل طريق الأسياد لتستعبده المرأة".
نعم عندما سلكت طريق العبيد آمنت بقيمتي وأدركت أنني كنز بخارطة، وأنّني كلوحة ليوناردو لا أحد يسطو على سرّ عينيّ، وأنني أغرب من كتاب أنتيخرستوس، وأنّني كثورة شباب الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني لا أنتظر من مصالي أن يعلن وقت اندلاعي أو يصادق عليه.
لو كنت رجلاً لما امتلكت هذا القلب وتلك الأفكار، ولما تعلّمت مواجهة ذاك الحجم من الألم وذاك الجبل من المعاناة في مشوار الحياة، لبدا كل شيء عادياً أو لربطته بالشهامة، وما أقرب الشهامة إلى قلب الرجولة، لو كنت رجلاً لتحرّشت بي النساء بطريقة أخطر من تلك التي يتحرش فيها الرجال بالنساء، أن تتحرش امرأة برجل يعني أن تقضي على أنوثتها، وتشن الحرب على امرأة أخرى وأسرة ومجتمع، وما أخطر معارك النساء.
وكم صارت نساء يتحرشن بأنفسهنّ من خلال أفعالهن وأشكالهن قبل أن يتحرش بهنّ الرجال! لو كنت رجلاً لما فهمت النساء.
كم فتاة تمنّت لو كانت رجلاً؟ حتى أنا تمنيتها يوماً حين أغرقني الضجر، لكنني كنت على مدى الطموح على يقين أنّني لو كنت رجلاً لاتّخذت شخصيتي منحى مغايراً، ولربّما عدت لأتمنّى لو كنت امرأة.
كم فتاة طوّقت نفسها قبل أن يطوّقها المجتمع ثم تمنّت لو كانت رجلاً؟! كم من فتاة تخلّت وهي لا تعلم أنّها لو كانت رجلاً لما تمنّت ما تمنّت!
أن أكون امرأة يعني أن أكون وطناً ولست الوطن الوحيد الذي يحلّق جلد أحلامه اللصوص ويسرق ثرواته قطّاع الطرق ويبيع مستقبله رجال الساسة ويموت على أطرافه الجنود ويستلقي على صدر زواياه المساكين.
أن تولدي امرأة يعني أن تلدي يوماً ما وتبزغ منك الحياة وما أصعب الولادة! إنّ الولادة خطر من الدرجة الأولى يهدّد حياة الأمّ وحياة المجتمع وكما تشكّل الخطر تنسج الأمل وترسم دروب الخير، وكما توقّع مولد مجرم، ترسل مع خيط الشمس بشرى مقدم منقذ.
أن تكوني امرأة المخاطر والأحلام يعني ألّا تتركي لغيرك قرار الاختيار، فأنت كل الخيارات تفرض نفسها دفعة واحدة على العالم، أن تكوني امرأة يعني أن تصنعي من مشتّتات الحياة حياةً، وأن تصنعي لنفسك فلسفة خارقة شرط ألّا تتعدّى حدود الله.