الأمومة بوصفها محنة، هذا ما تحاول بعض الأبحاث والدراسات الحديثة التعامل معه ومحاولة وصف أبعاده؛ القلق المبالغ فيه والذي يسيطر على بعض الأمهات، المشاعر غير المستقرة والأفكار المزعجة، الشعور بعدم الجدوى والخوف من المستقبل، وغير ذلك الكثير من الأشياء التي ترافق حياة الأم اليومية وتعرقل لحظات سكينتها.
في مقالها الأخير في مجلة “علم النفس” الأميركية، تتطرق كارين كليمان؛ المؤسسة والمديرة التنفيذية لمركز “الإجهاد النفسي والاكتئاب بعد الولادة” في ولاية فيلاديلفيا الأميركية، إلى هذه الإشكالية في علاقة بعض النساء بالأمومة.
وأشارت كليمان إلى اتجاهين مهمين تجب معالجتهما لفهم أهم مقومات العلاقة بين الأم والطفل والزاوية التي تنظر منها إلى مفهوم هذه العلاقة؛ وهما المجتمع المتطلب والصورة المثالية التي يرسمها للأمومة، والتحدي الذي يشكله دور المرأة كأم ومدى تحقيقها للتوازن بين الواقع وبين ما هو مرسوم لها، أو ما يتوقعه الآخرون منها.
وكانت الكاتبة جوديث وارنر، قد عبرت عن شعور الأم هذا وكأنه ضرب من الجنون؛ “وكأن شيئا ما يقف في حنجرتها، يجعلها على قناعة تامة بأنها دائما ما ترتكب بعض الأخطاء”، وبسبب هذا الشعور الخانق فإن الأمهات غالبا ما يكن عرضة للقلق، جرّاء الشعور بالذنب والاستياء بطريقة قد تسمم حياتهن وتجعلهن يعشن في جحيم دائم.
وتورد وارنر جملة من العوامل المسؤولة مباشرة عن إنتاج هذا الجيل من الأمهات اللاتي يقعن على الدوام ضحية للضغوط النفسية، وتأتي على رأس هذه المسببات وسائل الإعلام التي تظهر المرأة وتزوقها للآخرين على وفق نموذج مثالي متميز، قادر على تخطي الصعاب وفعل المعجزات ولعب جميع أدوارها على الإطلاق بمستوى هو أقرب للكمال، وهذا بالطبع مخالف للواقع ولقوانين الطبيعة، والأسوأ من ذلك هو أن يأخذ الأشخاص المحيطون بالأم من أصدقاء وأقارب وزوج ما تروج له وسائل الإعلام، على مأخذ الجد، وفي بعض الأحيان تتبنى الأم نفسها هذه الأفكار، فيصبح من الصعب إذ لم يكن مستحيلا الخروج من الدائرة الضيقة من الضغوط المجتمعية، والتحرر من القلق والضغط النفسي الذي تفرضه مثل هذه البيئة المتطلبة وغير المتسامحة؟
ويشير جيرون كاغان؛ أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد الأميركية، إلى أن بعض الأشخاص يولدون وهم يحملون سمة القلق أو أنهم يكتسبونها بالتتابع خلال سنوات عمرهم، مؤكدا من خلال أبحاثه لسنوات عن الكيفية التي يتطور بها مزاج الطفل الفطري مع الوقت، حيث أظهرت نتائج أبحاثة بأن الأطفال الذين يعانون من ردود أفعال تتسم بالشدة لكل ما يقابلهم من مواقف، يكبرون وهم يحملون سمة القلق هذه فيصبح لديهم استعداد فطري للتعامل مع أي مؤثر بالطريقة ذاتها.
وأوضح كاغان بأن بعض الأشخاص، وبصرف النظر عن تمتعهم باكتفاء مادي أو مدى صحة أطفالهم، فإن لديهم استعدادا فطريا على الدوام يصور لهم المشهد بصورة قاتمة، إنهم ببساطة يولدون أشخاصا قلقين. وعندما تنتمي المرأة/ الأم لهذا النوع من التصنيف، فهي تبدو شخصية قلقة على الدوام في ما يتعلق بدورها في تربية أبنائها، وعلى الرغم من جهدها ومثابرتها فإنها تقع فريسة للشعور بالذنب والتقصير دائما وبأنها لا تقدم لهم ما يكفي من الرعاية.
من جانب آخر، قد تظهر مجموعة من علماء النفس المعارضين لفكرة أن بعض الناس يولدون وهم يحملون سمة القلق في تكوينهم الشخصي، مستندين على وجهة النظر التي تقول إن الإنسان يولد صفحة بيضاء ثم تأتي التأثيرات البيئية، فتكوّن سماته وتصقلها. ولعل هذا النوع في الخلاف في الرأي بين العلماء ليس بجديد على الإطلاق؛ فمازالت الأبحاث والدراسات الحديثة التي تهتم بسلوك الإنسان تراوح بين تأثير الوراثة والبيئة، بعضها يرجح تأثير البيئة بنسبة كبيرة والبعض الآخر مازال يراهن على نظرية الوراثة، وكلا الجانبين يظهر أفكاره وإحصاءاته وكأنها أمر مسلم به.
من جانبه، يرى أستاذ علم النفس العيادي في قسم الطب النفسي في جامعة بنسلفانيا الأميركية، سيث جيليهان، أنه ليس من السهل على أي إنسان مهما علا شأنه، أن يعتني بصغير ويربيه؛ فالأمومة أو الأبوة عمل شاق حقا ويصبح أكثر مشقة عندما ننتقد أنفسنا على الدوام، كآباء وأمهات، بأننا لا نتقن أدوارنا على أكمل وجه، على الرغم من أن معظم هذه الانتقادات غير عادلة وغير صحيحة.
ويؤكد جيليهان على أن الشعور بالذنب والتقصير وبأننا لا نقوم بواجباتنا مثل بقية الآباء والأمهات، من أكثر الأمور المسببة للإحباط، حيث تسهم في تعزيز هذه النظرة القاصرة إلى النفس وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تظهر الوالدين دائما على أعلى نموذج من الكمال إضافة إلى إسهامنا كأفراد في هذا الجانب، حيث نبالغ في تقديرنا لمنجزات وتضحيات آباء وأمهات نراهم على شاشات التلفزيون في مواقع التواصل الاجتماعي، ونتمنى أن نكون في مستواهم.
وفي الحقيقة، فإن أغلب ما نراه ليس في مستوى الكمال الذي يصوره لنا الآخرون، فالواقع يقول إن هؤلاء آباء وأمهات مثلنا وربما نتفوق عليهم في بعض الخصائص و(التضحيات)، هذه التضحيات التي قد تشغلنا عن تقديم الرعاية المناسبة لأبنائنا؛ فكل ما يحتاجونه هو بعض الابتسامات والكثير من الحب الذي يشعرهم بالأمان، فهو من سيتكفل بجعلهم أفضل الأبناء.