أخيرا ستتمكن المرأة السعودية من المسك بمقود حياتها بنفسها وتوجيهه دون وصاية من أحد. قيادة السيارة ليست هدفا في حدّ ذاتها لكنها انعكاس لمآلات المجتمع السعودي ورغباته. قرار الملك سلمان بن عبدالعزيز ترجمة لحقائق جديدة تحكم السعودية. على رأس هذه الحقائق أن هذا البلد يتحول إلى دولة طبيعية. لم يعد ثمة مجال لرجال الدين أو المتشددين أن يقرروا مصير نصف المجتمع ويرسموا أبعاد حياته هكذا ببساطة.
نعم، هذا نتاج صعود الأمير محمد بن سلمان. ربما لا تختلف نظرة الأمير الشاب للمرأة عن نظرة أعمامه والجيل الأكبر منه في أسرة آل سعود. الفرق هنا هو أن محمد بن سلمان ليس لديه الاستعداد للصبر على المجتمع دون فائدة.
قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة هو تحرير لها بمعنى الكلمة. الأمر ببساطة كان أشبه باختطاف مجموعة صغيرة من الرجال، يطلقون على أنفسهم “علماء دين”، لنصف المجتمع. فلسفة هؤلاء “العلماء” كانت تقوم على أن قيادة المرأة للسيارة “تعرضها لأبواب شر كبيرة”. خيال هؤلاء ذهب بعيدا في تصور عواقب قيادة السيارة إلى “ترك الحجاب” وبالطبع “الاختلاط بالرجال”. الأمر كان أشبه بالمزاد المتروك للمزايدين لدرجة وصلت إلى حد الابتذال.
ثمة فتوى أخرى أصدرها أحد المشايخ تقول إن “ترك الاختلاط وعدم قيادة المرأة السيارة في هذه البلاد حق من الله على هذه الدولة بالمحافظة عليه، ولم يكن ما يقابل ذلك من الاختلاط والقيادة حقًا حُجب عن هذه الدولة في الماضي ولكنه شرّ وقاها الله منه”.
كل حجج الفلسفة الفقهية القائمة على “سدّ الذرائع” والتمسك بها تحول، خلال ساعات قليلة، إلى تأييد مطلق، بل كسر كل قواعد الرصانة والجدية في تبريرأن حكم قيادة المرأة للسيارة من حيث الأصل “الإباحة شرعا!”.
هكذا دون مقدمات؟ ألا يدل ذلك على أن المؤسسات الدينية في عالمنا العربي، رسمية أو غير رسمية، قلاع هشة؟ ألا يشجع ردّ فعل هيئة كبار العلماء السعودية التي تتبنى أكثر الرؤى السلفية محافظة، حكومات مصر وتونس والمغرب ودول أخرى لفرض تجديد الخطاب الديني بالقوة عليها، طالما أنها تحوّلت مع الوقت إلى عائق أمام تقدم الشعوب العربية؟
القرار السعودي يضع المكوّن الديني المتشدد في المجتمع رأسا برأس مع المرأة. المشايخ بدأوا يفهمون أنهم، مثل المرأة، جزء من حركة التاريخ وليسوا كهنته.
نفس هؤلاء المشايخ حرموا في السابق قيادة الرجل للسيارة واعتبروها “من عمل الشيطان”، عندما قدمها الملك عبدالعزيز لهم أول مرة. التليفون أيضا لم يرق لكثيرين منهم في بداية ظهروه لأنهم كانوا مصرين على أن لا أحد يستطيع أن ينقل الكلام عبر أسلاك ممتدة لمسافة 500 كلم سوى العفاريت.
ليست هذه كلّ المشكلة. في النهاية تطوّرات المجتمع قادرة على إذابة كل المتخلفين والمتشددين في ثنايا تفاعلاتها. المشكلة تبقى في المنطق الذي يحكم مجتمعاتنا.
هذا المنطق لا يفسّر مثلا كيف كانت المرأة السعودية تستطيع عبر الإنترنت الانتقال إلى أميركا وأوروبا ومتابعة آخر صيحات الموضة وأهم القضايا السياسية تعقيدا، وفي نفس الوقت لا تستطيع الذهاب إلى سوبرماركت الحيّ كي تشتري حليبا لأطفالها. هذه المرأة التي تقلب مواقع التواصل الإجتماعي كل يوم رأسا على عقب وتصطدم بمسؤولين وشباب وكبار ضمن نقاشات حول قضايا محورية غير مسموح لها أن تردّ السلام على رجل مرّ بجوارها بالصدفة في مول تجاري. كيف تريد من إنسان كهذا أن يصبح جزءا أساسيا من عملية الإنتاج في المجتمع؟ الأمر يشبه شخصا قرّر أن يحجل على ساق واحدة، ويدخر الساق الأخرى لسبب غير معلوم. هذا الشخص هو السعودية، التي مازالت تتكئ على نصف المجتمع وتهمل النصف الآخر.
نعم، قيادة المرأة للسيارة لا تعني أن السعودية أنهت المهمة بنجاح. هذه البداية فقط. قيادة السيارة يجب أن تترجم أيضا إلى قيادة الشركات والمؤسسات والبنوك ومنظمات المجتمع المدني. إبقاء بعض المناصب حكرا على الرجال يضع المرأة في صفوف القاصرين. الوظائف المخصصة “للرجال فقط” صارت أشبه بالأفلام المذاعة “للكبار فقط”. نظرة المجتمع للمرأة، وما يجب أو لا يجب عليها فعله، مازالت تشبه نظرة الأسرة للأطفال الذين لا يستطيعون التمييز بين ما يصبّ في مصلحتهم وما لا يجب عليهم الاقتراب منه.
في النهاية وضع المرأة في السعودية مازال معقدا. هذا ليس مبررا لمن سبقوا محمد بن سلمان في الحكم. كان هناك بالفعل فرص عدة في الماضي لإخراج المرأة من القمقم، لكنها لم تستثمر. هذا يسلط الضوء على البعد الاجتماعي لقمع المرأة السعودية، وليس البعد الديني فقط. نظرة المجتمع الخطوة الثانية للإصلاح.
لا تقوم هذه الخطوة على تنفيذ المزيد من الإصلاحات فحسب، لكنها تُبنى في الأساس على إقناع الناس بتقبّلها. الإصلاحات في النهاية هي أدوات لخدمة الناس وتسيير شؤون حياتهم بطريقة أفضل. لكن إن كان الناس سعداء بحياتهم هكذا، فلن يكون هناك معنى لتلك الإصلاحات.
الوعي موجود، لكنه يظل منحصرا في صفوف الشباب. الأجيال الأكبر مازالت تميل إلى التحفظ. إقناع هؤلاء بأهمية هذه الإصلاحات وتبعاتها الإيجابية في المستقبل يحتاج إلى أن يمتلك المجتمع السعودي رؤية تتخطّى حيزه الزمني والفلسفي باعتباره يراهن على الشباب.
على فريق الأمير محمد أولا تفهم منطلقات هؤلاء الناس الذين لم يروا غير النموذج المحافظ الذي عاشوه طوال حياتهم حتى يتفهّموا بدورهم رؤيته.
شجاعة محمد بن سلمان تكمن هنا.. في عدم تردّده في اقتحام ألغام المجتمع. مسألة قيادة المرأة للسيارة كانت بالنسبة إلى السعودية سلك الكهرباء الذي يصعق كل من يقترب منه.
الأمير محمد اكتشف فعلا أن هناك سلكا لكن من دون كهرباء.
قد تبدو قيادة المرأة للسيارة أمرا طبيعيا بالنسبة إليك أو للمواطنين في بلدك وأن السعودية لم تحقق اختراقا فريدا. لكن واقعيا هذه المسألة تشبه مثلا إقرار مسألة زواج المسلمة من غير المسلم في تونس. لا فرق بين القضيتين سوى معايير كل مجتمع وتناقضاته.
الأكيد هو أن السعودية تتغير وعلى باقي دول العالم العربي أن تجلس وتشاهد عن قرب وأن تجهّز نفسها لمطالبات شعوبها التي ستأتي حتما على كل مجتمع لكن وفقا لظروفه وخصوصيته.