لم أكن واثقة الخطو ساعة بدأت البحث الميداني في جمع الحكايات الشعبية لواحة براك منطقة الدراسة ( بجنوب ليبيا ) ماسأُعنى به بحثا سوسيولوجيا في دراستي العليا، كانت دراسة أكاديمية بكر في جامعات ليبيا حول الحكاية الشعبية الليبية ممثلة بمنطقة بعينها، خطوي أول نزولي بالواحة (أكتوبر عام 1999) لم أوفق فيه بالجمع والتسجيل ، وكنتُ بعد أن طالعت بعض المراجع أعتمدت خريطة بجغرافيا الواحة التي تتوزع بين أربعة أحياء : براك القصر وهي القرية القديمة / براك العافية / براك المصلى / براك الزوية ، في ذاكرتي من والدي وأهلي الاقرباء بعض تفاصيل عن المكان تمركزت ببراك القديمة وبراك الزاوية حيث سكن ابناء عمومتي وفروعهم ، و عمتي التي لم تغادر واحتها الى أن قاربت عقدها العاشر ! من ستساعدني لأجمع الحصيلة الأكبر من الحكايات لاحقا، لكن عناية الباحث بالمكان تاريخا وجغرافيا وسكانا تتوسع وتحيط ما أمكن بكل ما له علاقة بالاجابة على فروضه وتساؤلاته وذلك من لزوم ما يلزم ، وكان علي أن أحاول سعيا في ذلك ، وعزمت على البدء بجدولة لعينات من البيوت بالاحياء الاربع لمن تعيش بينهن سيدة مُسنة جدة ثم أما ، فهن على الأغلب حاملات سر الحكاية .
كانت مفكرتي الرئيسة التي أفتتحتها بتسجيل تاريخ أول زيارة استكشافية لي بالواحة ، ما ملأتُها بالمواعيد والملاحظات المتعلقة بالدراسة ، أما المفكرة الزرقاء فقد خصصتها لتفاصيل عمرت بها يوميات الجمع ، قد يعتبرها البعض هامشية ،وأن لا علاقة لها بما سأورده بالبحث ولكني رغم ذلك وثقتها ، من ذلك بيوت دخلتها ولم أحصل منها على حكاية لبحثي فتعرفت على أهلها وسمعت بعض سيرهم في الحياة ،مواقف حصلت لي حين غبتُ أو تأخرت أو أجلت تسجيل حكاية ،حفظتُ بالمفكرة الظروف التي حالت دون ذلك ، أعياء ، إجهاد ، مرض عارض أصابني بزياراتي المتكررة لسنوات ثلاث !، تواريخ لفقد الكهرباء بالحي الذي أقمت بها منعت ذهابي لموعد ضربته ،دونتُ حتى عدد الساعات التي غابت فيها الكهرباء !، تسربٌ في المجاري بأهم شوارع الواحة أخذ أياما لأصلاحه وعطل أيضا ذهابي لأسجل إذ أغلق الاهالي الشارع لعمليات الحفر وتركيب المواسير !، المسلسلات التركية التي شغفت بها بعض راوياتي بعد الظهر وكان علي أن أحضر بعدها ، مواعيدهن الى تنورهن المسائي ألتزمت معهن فيها بالاستئذان أولا، أأقف معهن عند التنور وأستجوبهن عن نص لحكاية أم ننتظر إتمام وضع خبزهن بأكمله مصفوفا على جدار التنور؟! كانت الهوامش والتفاصيل كثيرة ، مفكرتي الزرقاء التي أحتفظتُ بها الى يومنا هذا ، حمالةٌ أيضا لفقد بعض ممن وثقت موقفا معهن ، فراويتي فاطمة حميدة رحمها الله ضيفتني وجبة شعبية لذيذة من صنعها نسميها في مدينتي طرابلس "رشدة بُرمة" ، ونادتني لقصعتها الساخنة الراحلة فاطمة قائلة هذا "المقطع" الحانط ! ، ْمقَطَع كونها عجين يجري قطعه طوليا ،ووضعه بمرق القديد رفقة بقوليات ،وتشتهر الواحة بزراعة اللوبيا التي مُعتادة في وجبة "مقطع" براك.
مبروكة الحبروش المريضة اليوم طريحة الفراش شفاها الله ، لي حكاية معها حين منحتني حكاية شعبية مُغناة " شبيشبان اللي طاح في القدر ما بان " إذ ونحن في غمرة التسجيل وأحفادها حولنا دعتني لشرب ماء بارد من جرتها فشكرتها واعتذرت فلم أكن عطشى ، فبادرت سريعا لتلقم فم الجره قرب فمها وتشرب ، ثم علقت : يا بنتي فاطمة الجرة مضمونة وماؤها نظيف لا تخافك ! فجاملتها وشربت من جرتها ، وبعد دقائق وقد اكملت حكايتها ، دعتني لأنهض وأشارك عائلتها وجبة (ترديدة العشية ) قلت لها :هيا فلننهض معا ، فصاحت فينا : حي علي أنا صايمه وشرِبتْ الماء، لم أعرف ما علي فعله ، أُسقط في يدي ! وأخذت في الاعتذار لها خجلة من نفسي، ومن مفكرتي الزرقاء قد نعود لتفاصيل وحكايات أخرى مع حاملات السر .