هناك عبارات يوحي ظاهرهــا أنها من العامّيّــة ، ولكنَّ حقيقتهـــــا تشهد أنَّهــا من الفصيح ، ولسوف نذكــر في هذا الباب بعضــاً من الأمثلة على ذلك .
قولهم (دلّـوع ودلعونة ): تعبير يكرره العوام على من أُفْرِط في دلاله ففَـقَـد كثيــرا من توازنه ووقاره ، وصار لشدّة دلاله يتدلع ، وهو من الفصيح ولقد جـــــــاء في اللسان ، مادة (د ل ع):
دَلَعَ الرجل لسانه يَدْلَعُه دَلْعاً فانْدَلَع وأَدْلَعه: أَخرجه، جاءت اللغتان في لغة الجذور.
وفي الحديث: أَنَّ امرأَة رأَت كلباً في يوم حارٍّ قد أَدْلَع لسانه من العَطَش ، وقيــــل: أَدْلَع لغة قليلة ؛ قال الشاعر: وأَدْلَعَ الدَّالِعُ من لسانه ، وأَدْلَعَه العَطَشُ ودلَعَ اللسانُ نفسُه يَدْلَع دَلْعاً ودُلوعاً ، يتعدّى ولا يتعدّى، واندلــــــــع : خرج من الفم واسترخى وسقط على العَنْفقة كلسان الكلب.
وفي الحديث: يُبْعَث شاهد الزُّور يوم القيامة مُدلِعاً لسانَه في النار، وجاء في الأَثَـر عن بَلْعَم: أَن الله لعَنَه فأَدْلَع لسانَه فسقطت أَسَلَتُه على صدره فبقيت كذلك.
وقال الهُجَيْمي : أَحْمق دالِعٌ ، وهو الذي لا يزال دالِعَ اللسان وهو غايـــة الحُمْق . وسببه الدلال المفرط .
عبارة (هيلانــــة) : يوحي اللفظ أنه من العاميّة ، بل من العامية الفرنجية ، يشاكل اسم إحدى القدّيسات النصرانيّــــــات اللائي يعشْن في إحدى الكنائس ، والواقع أنَّه غير ذلك، فـ(هيلانة) نحت لغوي عربي فصيح يشير إلى جارية أحد الخلفـاء العرب
( وهو الرشيد على أغلب الظن)، كانت هذه الجارية الروميّة تُكثِــر في كلامهـا من لفظ يسميه المعاصرون (محطة كلامية) وهو تكرارها من قول : هوَ لأنَّهُ ، أو (هو إلا أنّه ) فصـار لقبها هيلانة وفق ما أطلقه عليها الرشيد .
يقال في الأمثال العامية :
إذا لم تكن لي والزمان شرم برم، فلا خير فيك والزمان ترللي .
وأصل المثل فصيـــــــــــــــح تمامــاً ، ولنتابع :
شُرُم بُرُم: أصلها كلمتان هما (شَرٌ مُبْرَم) أي: شر كبير ، مستطير جَلل .
وتَرَلَلَ لي: أصلها أيضا كلمتان هما (تراءى لي) أي: ظهر وبان بمعنى انــا أرى .
وهذا يحصل حينما يكون المرء بخير ورخاء عيش .
ومعنى المثل:
إن لم أجدك وقت الضيق والزمان عليَّ ، فلا حاجة لي بك والزمان يضحك لي . فلا قيمة للصديق وقت الرخاء ، إذا لم يقف مع صديقه وقت الشدة والشقاء ,
وهذا يقترب من معنى بيت الشعر :
لا ألفينَّك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زوّدتني زادي
يقولون عن الرجل الحقير الجسد المتقبّض(عكش)، وكنت أحسبها عامية لا علاقة لها بالفصيح، وعرفت الآن أنها سليمة لغويا . جاء في القاموس المحيط :
عَكِشَ الشَّعَرُ، كفرحَ: الْتَوَى، وتَلَبَّدَ، كتعَكَّشَ ، وعكش النَّبْتُ: كثُرَ والتَفَّ.
والعَكِشُ من الشَّعَرِ : الجَعْدُ ، والرجلُ لا يُخْرِجُ من نَفْسِهِ خيراً. وشجرةٌ عَكِشَــــةٌ : كثيرةُ الفُروعِ مُلْتَفَّةٌ. وعَكَشَ عليهم يَعْكِشُ : عَطَفَ ، أو حَمَلَ ، وعكش العَنْكَبُـوتُ: نَسَجَتْ ، وعكش الشيءَ : جَمَعَهُ ، وكذلك عفش وعقش . فتأمّل يا رعاك الله .
الكرش والمصارين: وكنت أظنهما من العامية أيضا، وتبيّن لي أنهما من الفصيح:
الكَرِشُ لكل مُجْتَرٍّ : بمنزلة المَعِدة للإِنسان تؤنثها العرب ، وفيها لغتـــــان : كِرْش وكَرِش مثل كِبْد وكَبِد، والمصارين جمع المصران ، وهي الأمعاء ، مكان اجتمــاع الفرث بعد المعدة (2) .
يقول أهل القرى : نكر الديك الحبة ، أو نكرها العصفور وطار : و(نكَر) لغـة في (نقر)بـإبدال القاف كاف، وهذا باللهجة الفلسطينية ، وفي لهجة الحورانيين وأهـل اليمن وبعض الحجــــاز يبدلون القاف بحرف قريب من الجيم المصرية ، والمعنى سرق الحبة أو اختطفها ، ويظن كثيرون أنها من العاميّة، وما هي من العاميّــــــة بشيءٍ بل من الفصيح .
جاء في المعجم : ونَقَرَ الطائرُ الحَبَّة يَنْقُرُها نَقْراً: التقطها، أو اقتنصها.
ومِنْقارُ الطائر والنَّجَّارِ ما يقتات به بمنزلة الفم للإنسان والحيوان، والجمع مَناقِيرُ، ومِنْقارُ الخُفِّ: مُقَدَّمُه، على التشبيه.
وفي الحديث الشريف:أَنه نهى عن نَقْرَةِ الغراب أو نقر الديك،يريد تخفيف السجود في الصلاة، وأَنه لا يمكث فيه إِلا قدر وضع الغراب أو الديك مِنْقارَهُ فيما يريد أَكله.
ومنه حديث أَبي ذر: فلما فرغوا جعل يَنْقُرُ شيئاً من طعامهم أَي يأْخذ منه بأُصبعه.
والشيء بالشيء يذكر، يعبّر العوام عن فعل السرقة بـ(باقَ يبوق بوْقاً) مثال: بــاق الحرامية العفش : يريدون ، سرق اللصوص المتاع .
(الحرامية : مفرده حرامي : وهو المنسوب إلى الحرام ، مرتكب الحرام وهو هنـــا اللصّ، والعفش المتاع ، فصيـــح أيضــاً ) .
والفعل (باق) : تقول فيه العرب البائقةُ: الداهِيةُ.
وداهيةٌ بَؤُوق : شديدة. باقَتْهم الداهِيةُ تَبُوقُهم بَوْقاً ، بالفتح، وبْؤوقــاً : أصابتهم، وكذلك باقَتهم، بَؤوقٌ على فَعُول.
لذلك فما في البادية (باق بمعنى سرق) هو معنى صحيح فالبَـوْق من الأضداد، لفظ مشترك بمعنى التغييب والإظهار ، وهو يترافق مع الخبث فقالوا : باق إذا سرق .
ويحسن الاستطراد هنا(إذ يذكِّرنا فعل باق بالبوق والبوقة):
البُوقــة : ضَرْب من الشجر دَقِيق شديد الالتــواء . قال الليث : البُوقةُ شجرة من دِقّ الشجر شديدة الالتواء.
والبُوقُ: الذي يُـنـفَخ فيه ويُزْمَر؛ (هذا مرويّ عن كراع، وهو معلوم لدى الجميع بدون كراع مع احترامنا له ) ؛ وأَنشد الأَصمعي: زَمْرَ النصــارَى زَمَرَتْ في البُوقِ ، وأَنشد ابن بري للعَرْجِيّ (3) :
هَوَوْا لنا زُمَراً من كل ناحِيةٍ،*** كأنَّما فَزِعُوا من نَفْخةِ البُوقِ
والبُوقُ: شِبه مِنْقافٍ مُلْتَوِي الخَرْق يَنْفخ فيه الطّحّان فيعلو صوته فيُعلم المُراد به ، وهنا يجب أن ننبه إلى عادة كانت متبعة لترتيب الدَّوْر عند أصحــاب المهن، لدى العرب قديما وهو دليل السبق الحضاري ، كانوا ينادون على صاحب الدَّوْر إذا حان دوره بالبوق ، وهو غير بوق النصارى، لكن يشبهه ، أداة لتضخيم الصَّــوت وتكبيره ليسمع الصوت منها الغافلون ممن ينتظرون ، يسمونه (المنقاف) .
وفي الجذور: المِنْقَاف مِنْقَار الطائر. والمِنْقَـافُ نوع من الوَدْع . وهو أيضــا مـا ذكرناه آنفاً. وقال الليث: المِنْقَاف،عظْم دُويبة تكون في البحر، وهو الذي يُصقَل به الصّحُف. (( والنقف نجده جذوريّــاً في : النّقْفُ: وهو كسر الهامة عن الدمــــــاغ.
ونَقَفْتُ الحنظل: أي شققته عن الهبيد، قال امرؤ القيس:
كأنّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَـمَّـلُـوا*** لدى سَمُرَاتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
والحَنْظَلُ نَقِيْفٌ ومَنْقُوْف، والهبيد من أسماء الحنظل أو هو شحمه . يُكســر أيَّــام القحط ويستخرجُ حبّه ويُنْقَع لتذهب مَرارته ويُتّخذ منه طبيخ يؤكل عند الضرورة.
وقال القُتَبي: جاني الحنظلة (أي من يجنيها ويقطفها ) ينقُفُها بظُفره، فإن صوَّتَت عَلِم أنها مُدركة فاجتناها، وإن لم تُصوِّت عُـلــم أنهـا لم تُدْرِك بعد فتركهـا)) . ولك عزيزي القارئ أن تلاحظ هنا وجه تسمية المنقاف من التصويت .
ونكتفي بهذا بالأمثلـــة على ردّ العامي إلى الفصيح لنؤكِّـد أنَّ هذا ممكن للباحثيــن بشرطين اثنين هما :
1-المرجعية المعجمية للباحث .
2-والمرجعية المهارية مع الخبرة المعتبرة ، ولا تكفي واحدة ، بل لابد من عرض الخبرة على على المرجعية القاموسية ، هذا والله أعلم .
================ حاشية :
(1)-وهو غير الهَيَلان : والهَيَلانُ في الجذور : الانهيالُ في تتابع .
وانْهال عليه القوم : تتابعوا عليه وعَلَوْه بالشتم والضرب والقَهر . فالهَيْل من قوله تعالى : وكانت الجبالُ كَثيباً مَهِيلاً ؛ وقال ساعدة بن جُؤيَّة الهذلي يصف ضبُعاً نَبَشت قبراً :
فذَاحَتْ بالوَتائـــــر ثم بَدَّت *** يدَيْهــــــا ، عند جانِبِه ، تَهيلُ
والهَيْلَمان ، فَيْعَلان ، والياء زائدة ، وهو أيضاً غير (منهل) فالتعبير الأول مصدر من(هـ ي ل)، والثاني من (ن هـ ل) بمعنى شرب، واسم منهل من الأسماء الشائعة جذوريّا وتعني مورد الماء.
(2)- والمِصْرُ: الحاجِزُ والحَدُّ بين الشيئين؛ في لغة الجذور إضافة لما ذكرنا ، قــال أُمية يذكـــر حِكْمة الخالق تبارك وتعالى:
وجَعَلَ الشمسَ مِصْراً لا خَفاءَ به، *** بين النهارِ وبين الليلِ قد فَصَلا
قال ابن بري : البيت لعدي بن زيد العبادي وقد أَورده الجوهري : وجاعـل الشمس مصراً ، والذي في شعره وجعل الشمس كما أَوردناه عن ابن سيده وغيره ؛ وقبلــه:
والأَرضَ سَوّى بِساطاً ثم قَدّرَها، *** تحتَ السماءِ، سَواءً مثل ما ثَقَلا
قال : ومعنى ثَقَلَ تَرَفَّعَ أَي جعل الشمس حَدًّا ، وعَلامـةً بين الليلِ والنهـــارِ؛ قال ابن سيده: وقيل هو الحدُّ بين الأَرضين ، والجمع مُصُور. ويقال: اشترى الدارَ بِمُصُورِها أَي بحدودها .
(3)- أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بَرِّي بن عبد الجبار بن بَرِّي (499 - 582هـ/1105 - 1187م) اشتهر بابن بَرِّي. هو نحوي مصري، يعود أصله إلى القدس. كان كثير الاطلاع على المصنفات والكتب بحوزة أبيه الذي كان وراقاً. كان له اهتماماً بالحديث إلى جانب اهتماه الأعظم بالنحو وعلوم اللغة العربية. أخذ العلم عن الكثير من العلماء كان أشهرهم ابن القطاع، أبو عبد الله السعيدي، ابن السراج، أبو طالب القرطبي. وتتلمذ على يده كذلك عدد من العلماء منهم أبو الجيوش عساكر النحوي، أبو المحاسن مهلب المصري، عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، هبة الله بن جعفر القاضي ، أما العرجي فهو : أبو عمر عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي، شاعر الغزل الصريح ينحو نحو عمر بن أبي ربيعة، كان يقيم بالعرج من وديان الطائف، صحب في شبابه مسلمة بن عبد الملك في حروبه بأرض الروم ثم عاش للهو والصيد، سجنه والي مكة حتى مات .