من الصحيح القول إن المرأة في مجتمعاتنا لم تأخذ حقوقها كاملة بعد وأن المجتمع السائد هو المجتمع “الذكوري” الذي يهيمن فيه ليس الرجال فقط، بل الفكر الذكوري بشكل عام حتى بين غالبية النساء. فقد أصبحت المرأة عموما تعتنق دون مناقشة الأفكار التي نشأت وتربت عليها تحت هيمنة الأب، الأخ، المدرس، الزوج والسيد، وتم حشو دماغها بأنها من النوع الأدنى، التابع، الموالي والخاضع، وأن هذه التبعية حماية لها.
في مصر مثلا عندما كان المجتمع يزخر بالحراك الاجتماعي-السياسي في الماضي، ظهرت شخصيات نسائية مستقلة تماما عن الرجل، في الأدب والفن والفكر والثقافة والإبداع عموما. كان التمرد سمة انعكست على إبداعات المرأة التي لم تكن تعتبر نفسها أو تقبل أن ينظر إليها باعتبارها صنيعة الرجل، أي نتاج المجتمع الذكوري، بل كانت كيانا قائما بذاته.
وقد بدأ الهجوم المضاد مع تدهور ثم انهيار الطبقة الوسطى وصعود طبقة حاكمة تميل إلى سحق الثقافة وأصحاب الفكر والوعي، والقضاء على الضمير الحي للأمة، فتم تشجيع وتبني والترويج لما يمكن وصفه بكل أشكال “الميديوكرتي” أو الوسطية والتدني الذي يخلو من الموهبة، في الفكر والفن والإعلام والسياسة.
هنا لم تعد المرأة تعتبر نفسها كيانا مستقلا بعد أن أصبحت تسعى بشتى الطرق للبحث عمن يكفل لها الصعود في شتى مجالات الحياة، بالتحايل والوساطة والوصولية والتدجين مع ضرورة نفاق السلطة والانسحاب من أي مواجهة محتملة معها، مقابل الحصول على فرصة لنشر قصة أو رواية أو طبع كتاب أو الحصول على درجة عملية من تلك التي أصبحت متاحة للبيع بمقابل أو إرضاء لنزعة الهيمنة الذكورية التي أصبحت تقوم بدور “صاحب الفضل” الذي يضمن بالتالي التباهي بقدرته على “صنع” وترويج الكائنات “الميديوكر”.
المجتمع الثقافي الذكوري الذي أصبح يفرض هيمنته بقوة في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية والحراك السياسي الذي يمكن أن تلعب فيه المرأة المثقفة دورا مستقلا مماثلا موازيا ومكملا لدور الرجل، أدى إلى أن أصبحت المرأة بمفردها، عليها أن تثبت وجودها ليس اعتمادا على قدراتها الخاصة، بل أساسا على علاقتها بالرجل وخصوصا من يملك الصيت أو الاسم أو النفوذ، مع ترسخ أقدام ذلك الأخبطوط الهائل الذي يتمثل في السلطة السياسية، الدينية، الاجتماعية، الإقطاعية العتيقة.
أصبح المجتمع الثقافي الذكوري يميل أكثر إلى التظاهر بمظهر الديمقراطي، المعتدل، المتوازن، الموضوعي، الذي لا يميل لاحتكار سلطة العمل الثقافي بل يرحب بتشجيع “الأنثى” الميديوكر بالطبع، ليخلق منها صنيعته وشبيهه.
لذا تم الإعلاء من قيمة ما يمكن أن نطلق عليه “أنصاف القوالب” فلا يصح أن وصفها بـ”أنصاف المواهب”، فلا موهبة من الأصل، بل مجرد إفرازات أدبية أو فنية محدودة القيمة والأثر، لكنها كافية لتبرير التصعيد الذي يمارسه أصحاب الفكر الذكوري المهيمن، كنوع من “التطهر” من عقدة الإحساس بالذنب.
مع ما يستتبعه هذا من احتفاء مبالغ فيه في المحافل الفكرية والأدبية والفنية بهذا النوع من “نساء الميديوكر” وتصديرهن باعتبارهن دليلا لا يقبل الشك على نزاهة الذكوريين الذين يشعرون أصلا باهتزاز من الداخل، يسندون أنفسهم ويحسنون من صورتهم السيئة بتصعيد ودعم وتلميع صاحبات المواهب المعطلة، في ظل حالة الجفاف الذي ضرب الواقع الثقافي بعد القضاء على التجمعات والجمعيات والنقابات المستقلة.
طغيان النزعة الذكورية التي تميل إلى ستر وجهها بقناع من البراءة وادعاء تشجيع المرأة، أدى إلى أن أصبح معظم ما لدينا من نماذج للمرأة “المبدعة” نماذج زائفة لم تأت نتيجة جهد حقيقي بل نتاجا لـ”التصنيع” المفتعل من جانب مجتمع الذكورية الثقافية في ظل غياب تام للحركة النقدية الحقيقية التي تنأى بنفسها عن المجاملات وذلك الاحتضان الكاذب في المحافل الأدبية والفنية لهذا النوع من الطفيليات التي قصد بها سد الطريق أمام المواهب الحقيقية التي يمكن أن تنذر بكشف الغث والمفتعل والمزيف ومواجهة ادعاءات الذكورية الثقافية الإقصائية المهيمنة.