شهدت الفترة الأخيرة سيلا من اعترافات عدد من المشاهير الغربيين مضمونها أن مرور النساء على السجادة الحمراء دفعن ثمنه سكوتهن عن تحرش مسؤولين نافذين بهن، وهو ما شحن الطاقات العربية بالشجاعة والإقدام على كشف حقائق خفية طبخت داخل كواليس الولوج إلى عالم الفن.
ولم يقتصر التحرش على فئة معيّنة أو مستوى ثقافي معيّن أو فئة عمرية محددة، بل الكل جميلات وقبيحات صرخن بصوت واحد “تعرضن في يوم من الأيام للتحرش”.
الجميع فجأة آثرن إزاحة الستار عن حالة من الحالات المسكوت عنها داخل المجتمعات لا سيما العربية، وإن كان الصمت العربي إزاء مثل هذه الحوادث بدأ يأخذ مسارا مختلفا لم تعد معه الضحايا يخفن الإبلاغ عن المتحرش.
ولكن من المسؤول عن انتشار هذه الظاهرة، هل هي الضحية نفسها، ولنفترض ذلك بما أن بعض الناس يرى أن الأنثى تثير حفيظة الرجل وتستدرجه غامزة لامزة “تحرش بي من فضلك”، بيد أن الذكور أيضا عرضة للتحرش فما حيلتهم في ذلك؟
ولو تواصلت موجة الاعترافات تصوّب سهامها من كل الاتجاهات قد يجد الرجل الراغب في الزواج من عروس لا سجل “تحرشيا” لها عفوا إجراميا، أمام خيار واحد، وهو أن تقول له طائعة “هذا رقم بطاقة تعريفي الوطنية”، فيحمله على عجل إلى وزارة الداخلية ويفتش بين ملفاتها الحاسوبية عن سيرة ومسار حبيبة القلب والفؤاد ويحصل الجار الغيور على عرض بنات الحي على تقاعد مبكر.
هذه الرؤية طبعا من باب الدعابة لا غير وفيها من التلميح الشيء الكثير، لكنها قد تكون أفضل بعشرات المرات من ذاك الجار الذي يقصده العريس أو بعض خاصته للسؤال والتقصي عن سلوكيات العروس وأهلها، فلا يصرف جهدا في تصويرها في أسوأ صورة -سامحه الله- مما سبب في الكثير من الأحيان انفصال الخطيب عن خطيبته.
ويبدو لي شخصيا هذا لون من ألوان التحرش، فالتحرش لا يلامس فقط مناطق من أجساد الإناث أو الذكور، بل يتضمن مجموعة من الأفعال تبدأ من الانتهاكات البسيطة وصولا إلى المضايقات الجادة التي من الممكن أن تتضمن التلفظ بتلميحات جنسية أو إباحية، وصولا إلى النشاطات الجنسية. وهو عمل غير أخلاقي يدل على وجود مرض نفسي، وتقطيع الأعراض أيضا فعل مرضي غير أخلاقي بالمرة.
لذلك فإن العلاقات بين الجنسين متشعبة ومتشبعة بعادات وتقاليد ضيقت عليها الخناق مما جعل رهطا من الرجال يميل إلى التحرش بالإناث يمنة ويسرة وغذى الاغتصاب، حيث يعتقد بعض علماء النفس أن القليل من الرجال هم الذين يرتكبون جريمة الاغتصاب بقصد المتعة الجنسية والباقون يرتكبون جريمتهم معاداة للمجتمع الذي يعيشون فيه، ويرون أن الكثير من المغتصبين لديهم إحساس بالكره أو الخوف من النساء مما يقودهم إلى الرغبة في إثبات قوتهم وسيطرتهم من أجل إذلال وإيذاء هؤلاء النسوة المغتصبات.
لا يمكن حصر فعل التحرش في وسط بعينه أو مجتمع دون آخر، ولا يمكن إنكار ما صارت عليه سلوكيات وأخلاقيات أغلب شعوب العالم، في السابق كان الولد الذي يرافق والدته أو بعضا من نسوة العائلة إلى مجالسهن النسائية عرضة لهيمنة هرموناته الأنثوية على الذكورية، لكن اليوم وبفضل تعديلات وتنقيحات طارئة على سلم القيم أصبحت منصات الواقع الافتراضي والشاشة الصغيرة الأب الروحي للناشئة والموجهة للمراهقين والراعية للكبار.
هذه انعكاسات سنوات من التضليل تظهر على مرايا الأسر العربية والغربية وتكتب شرحتُ فتقرأ تحرشا، فلا تشرح شيئا بل تتمادى في التحرش.