أصدرت المحكمة الابتدائية بطنجة أقصى شمالي المغرب في أبريل الماضي أول حكم قضائي في تاريخ بالبلاد، يقرّ بحق طفلة مولودة خارج إطار الزواج بالانتساب إلى والدها. وفي أكتوبر الجاري ألغت محكمة الاستئناف بالمملكة هذا الحكم.
وما بين التاريخين طفا ملف “أبوة الأطفال خارج إطار الزواج” إلى واجهة الجدل من جديد بالمملكة. 8 أشهر فصلت بين الحكم الأوّلي والاستئنافي، غير أنها كانت كافية لتزلزل المنابر الحوارية في مختلف وسائل الإعلام بالمملكة.
جدل وضع في الواجهة معارضين لما يعتبرونه “ضربا للخصوصية الدينية وللأعراف”، وشقا ثانيا يدافع عن حق أطفال لا ذنب لهم في الحصول على نسب، مستحضرين البعد الإنساني للمسألة.
ورغم الأهمية الاجتماعية المحورية لهذا الملف الشائك، فإنه غالبا ما يظل مركونا في زاوية يخشى الكثيرون بالمملكة الاقتراب منها، لما يثيره الموضوع من حساسيات على مختلف الأصعدة. إلا أنّ سيدة مغربية مقيمة في مدينة طنجة كسرت الصمت المخيم -ظرفيا- على الموضوع، حيث لجأت إلى المحكمة لإثبات نسب مولودتها، فتصدّر الملف اهتمام الرأي العام المحلي من جديد.
علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع بالمغرب، يرى أن “ردود الفعل من قبل مكونات المجتمع المغربي تجاه الموضوع متضاربة”. وقال إنّه “في الوقت الذي ترفض فيه بعض الأطراف قرار محكمة الاستئناف من منطلق قناعتها بحقّ نسب الطفل، إنسانيا، لأبيه، إلا أن بعض الأطراف الأخرى تؤيّد قرار المحكمة استنادا لـ”خصوصية المجتمع الإسلامي ومرجعيته الثقافية والأخلاقية”.
رغم البعد الإنساني الذي يستند إليه المدافعون عن حقّ المولود خارج إطار الزواج في الحصول على نسب والده، إلا أن الشعباني يعترف بوجود “جوانب سلبية تمس العلاقة بين الأبناء والآباء، والأسرة” عموما.
وأوضح أن “المنظومة الاجتماعية مبنية على العديد من الثوابت المتعلقة بالحضانة ورعاية الأبناء والتربية والإرث، ولذلك فإن جميع هذه المفاهيم يمكن أن تندثر أو تتغير في حال تبدّلت بعض الثوابت المؤطرة للمجتمع″.
ودعا إلى ضرورة فتح نقاش علمي حول الظاهرة، يشمل جانبها القانوني والاجتماعي والديني. ووفق الشعباني فإن المجتمع المغربي يقف اليوم بين خيارين؛ إما “التمسك بالإرث الاجتماعي وعدم فتح أي مجال لأي تغيير في بنية المجتمع والأسرة، وإما إحداث تحوّل جذري في بعض المرتكزات الاجتماعية والعلاقات الأسرية”.
عائشة الشنا، رئيسة جمعية التضامن النسوي في المغرب (غير حكومية)، رأت من جانبها أنّ “القانون فوق الجميع، إلا أن المجتمع في حاجة إلى نقاش بخصوص الأطفال خارج إطار الزواج”.
وأضافت أنه من “الضروري أن يحصل هؤلاء الأطفال على بعض الحقوق مثل الانتساب إلى آبائهم، خصوصا في حالة ثبوت نسبهم”.
وقدّرت، استنادا لدارسة نشرتها جمعية إنصاف بالمغرب (غير حكومية) في 2011 بالتعاون مع الأمم المتحدة “عدد الولادات خارج إطار الزواج بالمغرب، بـ153 مولودا يوميا”، مشيرة إلى أن “هذا الرقم شهد ارتفاعا في السنوات القليلة الماضية”.
ودعت الشنا إلى ضرورة التوعية وتدريس التربية الجنسية للحدّ من ظاهرة الأمهات العازبات والأطفال خارج إطار الزواج.
وقالت إن المشكل ببلادها يتعلق بـالعقلية خصوصا في ظل غياب النقاش الجادّ حول الموضوع. كما دعت إلى ضرورة إدماج الأطفال والشباب خارج إطار الزواج في عدد من المجالات بما فيها سوق العمل، لأن بعض القطاعات ترفض تشغيلهم.
اعتمدت المحكمة الابتدائية بطنجة على حيثيات غير مسبوقة، معللة قرارها بنصوص من اتفاقيات دولية ومن الدستور الجديد. وانطلاقا من هذه النصوص، قضت بالاعتراف بالبنوة من دون النسب، حيث قضت بثبوت البنوة بين الطفلة وبين المدعى عليه اعتمادا على نتائج الخبرة الطبية التي أثبتت العلاقة البيولوجية بينهما، مميزة في هذا الصدد بين البنوة والنسب الذي لا يؤخذ به وبمفاعيله إلا في حال البنوة الشرعية.
كما قضت المحكمة بالتعويض للأم بدلا عن النفقة للابنة، حيث رفضت طلب المدعية بإلزام المدعى عليه بتحمل نفقة البنت، وعللت قرارها بكون النفقة من آثار النسب الشرعي. لكنها وفي أول سابقة لجأت إلى أعمال قواعد المسؤولية التقصيرية لتلزم الأب البيولوجي بدفع تعويض للمدعية نتيجة مساهمته في إنجاب طفلة خارج إطار مؤسسة الزواج.
ولما ثبتت المسؤولية الجنائية للمدعى عليه بارتكابه للفعل الجرمي المذكور والذي نتج عنه ولادة الطفلة تكون العناصر القانونية لقيام المسؤولية المدنية ثابتة في نازلة الحال، وفقا لما ينص عليه الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه “كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح به القانون، وأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض عن الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر”.
وهكذا ارتأت المحكمة بعد ثبوت علاقة البنوة بين البنت والمدعى عليه، وما يستلزمه ذلك من رعايتها والقيام بشؤونها ماديا ومعنويا والحفاظ على مصالحها كمحضونة، وما يتطلبه ذلك من مصاريف أن تمنح المدعية تعويضا يحدد بمئة ألف درهم.
وعن الأسباب التي دفعت بمحكمة الاستئناف إلى نقض الحكم الابتدائي الذي وُصف بـ”ثورة هادئة” في قانون الأحوال الشخصية بالمغرب، يقول أحمد كنون محامي الدفاع عن أمّ الطفلة المعنية بالحكم القضائي (م.ن)، إنه لا يعلم بالتحديد المستندات القانونية التي بَنَتْ عليها المحكمة الاستئنافية بطنجة حكمها الصادر في الـ11 من أكتوبر الجاري، معتبرا أن “الحكم الابتدائي كان مطابقا للصواب لأنه جاء معلّلا تعليلا علميا وقانونيا واضحا على عكس الحكم الاستئنافي الأخير الباعث على الأسف”.
ولم يخفِ المحامي كنون، في حوار مع دي دبليو عربية، نيّته اللجوء إلى الطعن في الحكم الاستئنافي الأخير، قائلا إنه “واثق من إنصاف الطفلة أمام محكمة النقض التي نضع كل آمالنا على عاتق قُضاتها، باعتبارها أعلى سلطة قضائية في المغرب”.
وكشفت جمعية إنصاف عن معطيات صادمة في ما يخص أعداد الأطفال خارج إطار العلاقات الزوجية الشرعية، حيث أكدت أن 30 ألف امرأة تنجب سنويا خارج إطار الزواج في المغرب. واستنادا إلى معطيات الجمعية ذاتها فإن 10 بالمئة منهن في الدار البيضاء.
وأوضحت دراسة أنجزت مع 125 شخصا من أمهات ومهنيين (أطباء، ومولدات، ومساعدين اجتماعيين، وأخصائيي علم النفس، ومربين)، أن معظم الأمهات العازبات غالبا يكن قاصرات ومن أسر فقيرة، ويتم التغرير بهن من طرف أشخاص في الغالب يكونون من العائلة نفسها أو عن طريق خطبتهن، حيث تطمئن الفتاة للرجل قبل أن تمارس معه الجنس الذي ينتج عنه حمل تتحمل عواقبه لوحدها.
وأشارت إلى أن النساء اللاتي يتوفرن على الوسائل المادية يستطعن إيجاد حلول لحملهن خارج إطار الزواج، من خلال الإجهاض القانوني في تونس والسري في المغرب والجزائر.
كما أشارت الدراسة التي تمت بشراكة مع جمعيات “إنصاف” في المغرب، و”أمان” في تونس، و”نجدة النساء في شدة” في الجزائر، و”سانتي سيد” في فرنسا، وتم توثيقها في كتاب تحت عنوان “الأمهات العازبات في المغرب العربي”، أنه مباشرة بعد تأكد الفتاة أنها حامل ورفض الأب البيولوجي تحمل المسؤولية تبدأ معاناتها مع الأسرة والمجتمع والقانون، مشيرة إلى أن قضية الأمهات العازبات في العالم العربي لا تزال “طابو”.