"في البدء كان السؤال، فكانت الكلمة، فكانت المعرفة.. فكنتُ خلف القضبان!!"
#سفر_التخوين
أُمّتي الحبيبة..
لقد اعتدت مراسلتكم بكل خواطري وأفكاري وما أؤمن به، فخذوا عنّي هذه أيضاً، كي أرتاح في محبسي/ مرقدي/ منفاي..
كنت قد آمنت بكم.. وبالفكر والعلم والإرادة، وقلت لكم بأن المعرفة هي سلاحكم ضد الهيمنة والتبعية وهي وسيلتكم للتغيير.
وظننت أن ثورة المعلومات على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في عصركم هذا سترتقي -لا محالة- بنسبة الوعي في بلدانكم وحول العالم، وستعيد تشكيل مفردات العقل الجمعي لدى الأجيال القادمة، بنحو أكثر انفتاحاً على التحليل والنقد الذاتي، والتخفف من أعباء الدوغمات الثقافية والسلطوية المتوارثة.
وكنت أؤمن بأن التغيير -أي تغيير- هو مسألة "حتمية" تحكمها سنن كونية "جدلية"، متصارعة، لا تنفك تولّد نقائضها ذاتياً، ولا ترضخ للنسق والرتابة.
والناظر -مثلي- إلى مسارات التغيير تاريخياً، يدرك أن وتيرته لم تكن قط على نسق واحد؛ بل كانت تختلف باختلاف الآليات والأدوات التي تنتجها المجتمعات في مختلف الحقب.
ولم يساورني شك في أن باكورة إنتاج تلك الأدوات بدأت منذ أن نَطَقَ أول إنسان، ولم ولن تنتهي حتى يلفظ آخر إنسان كلمته الأخيرة!
وكنت أؤمن كذلك بأن أول أداة ثورية ابتكرها الإنسان هي "السؤال"!
فقد كان السؤال الأداة الأولى للمعرفة، والدافع البكر لكل تغيير، فهو ثورة على الاعتياد، وشكل من أشكال التمرد على كل ما يراد له أن يكون بدهياً ثابتاً.
ولست أبالغ إذا قلت: إن جريرة "تفاحة آدم" كانت أول تجسيد لتلك النزعة للخروج عن المألوف، والبحث عن التغيير، وتقفي أثر الأجوبة، وتلمّس الطريق إلى غد يشارك الإنسان في صناعته؛ ليتوالى بعد ذلك -عبر العصور- إنتاج الأدوات التي ساهمت في غربلة الثقافات وما علق بها من أفكار.
فاخترع الإنسان القلم، وورق البردي، فرسم أحبابه وأشياءه، ودوّن معتقداته وفلسفاته، ووثق أفراحه وأحزانه ومخاوفه، ثم صف الحروف جنباً إلى جنب في الآلة الطابعة، فاهتزت أشجار المعرفة وسقطت "تفاحة" أخرى على رأس نيوتن، وسقط معها الكثير من المسلّمات على أرض الواقع العلمي.
ثم ابتُكر المحراث ليجرف تربة العقول ويثير خصوبتها، فأثمرت ثورة صناعية ضج فيها صوت محرك البخار، فتسامت الرؤى، وتصارعت في سمائها الأيديولوجيات بين هبوب اليسار ورياح اليمين؛ لتنتقل لواقحها لاحقاً عبر أثير الهاتف وذبذبات المذياع، ويجسدها التلفاز صوتاً وصورةً تعبر حدود العالم دون تأشيرة.
هي ذات الأفكار المهاجرة التي حملت على جناحها يتيماً ما من هضاب الشام لتحط به في وادي السيليكون؛ حيث سيقطف "تفاحته" الثالثة الأخرى، ويرتدي ملامح ستيف ولقب غوبز، ومعطف البرجوازية.
هذه التفاحة الأخيرة عادت لتمارس هواية أسلافها حين نزعت رداء الحدود الفاصلة بين مرسل المعلومة ومستقبلها، بين الشهرة والعبث، بين الحقيقة والهراء، بين الغث والسمين، والتابع والمتبوع.. بين كل نقيض ونقيضه.
كنت أرى في كل ذلك نزعة إنسانية نحو الرقي والتقدم، واعتقدت أن دافع آدم وبنيه هو إرادة التحرر من كل قيد.
وفي المقابل، كنت أعلم أن التغيير ليس بالضرورة إيجابياً في كل حالاته.
وأعلم أيضاً أن تدافع الأفكار لطالما أنتج أطيافا مختلفة، منها من يعشق القيود والجمود، ويتمسك بالدوغما، وما يفتأ يُسفِه الأحلام والأفكار والأسئلة ويقلل من شأنها، بل ويخوّن مقترفيها ويشيطنهم.. ومنها من اعتاد تفيُؤ ظل صولجان السلطة، ووجد فيه سعة على ضيقه الظاهر، فتخندق خلفه، وسبّح بحمده، وخوّف عوام الناس من مآلات المستقبل في ظل غير ظله.
ولطالما أثبتت تلك الفئات قدرتها على التكيف السلبي مع كل أداة جديدة واكتشاف عيوبها واستغلالها في إعادة السيطرة على العقول والقلوب والضمائر.
وعلى مر التاريخ كانت هناك ثورات، وثورات أخرى مضادة لها، تستخدم ذات الأدوات وتستغلها في عكس الاتجاه.
فالتفاحة الأولى استغلها شيطان الرغبة في الخلود، على حين حسد.
والتفاحة الثانية اقتسمها رجال الدين ورجال المادة، على حين هرطقة.
والتفاحة الثالثة اختطفتها غِربان السلطة من أيدي الجماهير على حين تغريدة، ولم يحظوا منها إلا بقضمه!
واليوم..
ها أنا ذا أشهدكم على أني لم أعد أؤمن بكل ذلك، أصبحت شاكاً في قناعة الأمس، مرتداً عنها.
كنت مخطئاً حين ظننت أن للشعوب إرادة، تدفعها رغبة جامحة في التحرر.
أدركت الآن أن تلك الرغبة لم تكن يوماً سمة سائدة في جينات البشر، ولم يكن السؤال مبتدأ..
ولم تكن في البدء كلمة!
بل "في البدء كانت الحاجة" والحاجة فقط هي المحرك الأول، والأداة الأصيلة في طين الإنسان المتشبع بالتبعية والخضوع.
ولم يكن أكل آدم للتفاحة إلا نزغاً شيطانياً، كلفه الخروج من جنة الكمال والخلد؛ ليعيش في دنيا النقص والفناء.
ولم تزدنا تفاحة نيوتن إلا معرفة بمدى ركوننا إلى الأرض وخضوعنا لجاذبيتها، وما زادنا اليوم امتلاك تفاحة غوبز إلا عزلة عن بعضنا، وإظهاراً لعورة ذواتنا أخلاقيا كلما اختبأنا خلف شاشاتها المستطيلة، وأسمائها المستعارة.
ولم تكن ثوراتنا التي تغنينا بها سوى زوبعات زائفة في سراب أزرق تحت وسم أو "هاشتاغ" لا يلبث حتى يتبدد وينسى؛ ليحل محله وسم آخر، بل زوبعة افتراضية أخرى.
أيقنت الآن بأننا قوم لا نرفع رؤوسنا إلى الأعلى، إلا لنقتطف تفاحة محرمة.
ولا نطلب المعرفة إلا لنتباهى بما نتلقفه من تفاح ساقط، جادت به علينا أشجار الشمال بعد أن فسد وأصبح عبئاً ثقيلاً على فروعها.
أيقنت أننا قوم لم نثُر يوماً إلا عندما جُعنا وافتقدنا حموضة التفاح في حلوقنا.. وحينما حصلنا على بعضه، تراشقنا به فيما بيننا.
أيقنت بأننا قوم لا نملك إرادتنا، ولن نمتلك مصائرنا، وأن من امتلك التفاح، امتلك نواصينا ورقابنا وألسنتنا.
أنطونيو غرامشي