كتمان المشاعر المؤلمة يشبه كثيرا التحفّظ على سائل مغليّ في وعاء، وإذكائه بنار تحافظ على درجة غليانه حتى تصل به إلى درجة معيّنة لا يمكنها أن تحفظ مستوى توازن الماء المغليّ، ومع أول فرصة للتنفيس، فإن السائل سرعان ما يتناثر في شكل شظايا من حمم قد تترك آثارا لا تزول لمن يكتوي بنارها، وهو موقف مشابه تقريباً لسلوك شخص يتمكّن منه غضبه، بعد أن يكتمه طويلاً؛ حيث تتناثر حممه عشوائياً مع أول فرصة، أما النتائج فلا يمكن أن تحمد عقباها.
يشبّه علماء النفس هذه الحالة الإنسانية الاستثنائية بالألغام، التي تكمن طويلاً في باطن الأرض في انتظار الفرصة المناسبة للانفجار، إلا أنّ الفرق يكمن في أنّ انفجار اللحظة الإنسانية قد لا يأتي في التوقيت أو المكان المناسبين، وقد يتأذى طرف ثالث بسبب تواجده في المكان الخطأ فيدفع ثمن خطأ اقترفه شخص مجهول يقبع في ضمير الشخص الثائر.
من هنا تكمن أهمية الحوار في موضوع الخلاف مع الشخص المعني، فإذا تعذّر ذلك، فيمكن للشخص الذي تعرّض للإساءة الحديث إلى شخص موثوق عن مشاعره المكلومة، عن ألمه، خيبة أمله في ما تعرّض له من إهانة أو أذى نفسي، وهو أمر مهم بل ومحتم للحفاظ على الصحة النفسية والجسدية؛ إذ أنّ الانفعالات من هذا النوع يمكنها أن تسهم بصورة غير مباشرة في تدهور الحالة الصحية، إذا كان الإنسان يعاني بالفعل من أمراض القلب أو ارتفاع ضغط الدم أو حتى السرطان.
وترى الدكتورة جين جرير؛ باحثة ومعالجة أميركية في مجال العلاقات الأسرية والزواج، بأن التحدث مباشرة وبصراحة إلى الشخص المعني هو أفضل الحلول فإذا تعذّر ذلك، فيمكن أن يمهّد للحوار عن طريق رسالة إلكترونية أو رسالة مختصرة على الهاتف، وربما يلجأ البعض إلى وسيط قد يكون صديقا مشتركا للطرفين.
المهم، أن تصل وجهة النظر التمهيدية والرغبة في تلطيف الأجواء، ثم تعتمد الخطوة التالية على مقدار الاستجابة التي يبديها الطرف الآخر لمثل هذا التمهيد؛ فإذا تسلّم الرسالة، فهذا من شأنه أن يبدّد غمامة الغضب التي تعتمل في نفس الشخص الذي تعرّض للإساءة، إضافة إلى أنها فرصة قد تدفع الشخص المعني للتفكير ومحاولة فهم دوافع غضب الطرف الأول، ومدى الأثر السلبي الذي تركه سلوكه، قولا أو فعلا، على الآخر.
فكثير من حالات سوء التفاهم بين الناس مصدرها عدم استيعاب أحد الطرفين أو كلاهما لأثر موقف أو سلوك أو قول صدر عنهم، وتسبب في الإساءة إلى الآخر من دون قصد أو وجود سوء نيّة أو حتى تخطيط مسبق لإيذائه. فإذا ما تمت الاستجابة بالشكل الذي نتوقعه من الطرف المخطئ، فهذا قد يضمن عدم تكرار الإساءة أو الإهانة في المستقبل.
وتؤكد جين في العديد من الحوارات التي أجرتها مع نجوم في عالم الفن والأدب والصحافة من خلال برامج تلفزيونية شهيرة مثل “أوبرا” و”صباح الخير نيويورك” و”سي. بي. أس نيوز”، تؤكد بأن، هناك أوقاتا لا يمكن فيها الحصول على فرصة التحدث للشخص الآخر وقد يكون السبب؛ رفضه الحديث معنا، أو أنّ الوصول إليه أو الاتصال به قد استحال، خاصة أنّ البعض يلجأون إلى تغيير عناوينهم ووسائل التواصل معهم كطريقة للإمعان في إيذاء الآخرين.
في هذه الحالة، يمكن اللجوء إلى صديق للتحدث إليه كمحاولة لتطمين مشاعر الغضب، وربما يساعدك الصديق في التعرّف إلى ما يزعجك حقا من الإحساس بالظلم أو المهانة أو اللوم أو الندم وكل ما قد تسببه لك في ما يتعلق بتراجع تقديرك لذاتك واحترامك لنفسك. ويمكن بوساطته التعرّف إلى نقاط الضعف هذه، تجنّب حدوث ردة فعل حادة وعنيفة لمواقف مشابهة قد تحدث في المستقبل.
وتؤكد جين على أنّ المحور الأهم في كل ما سبق، هو مدى قدرتنا على التعلم من تجارب مماثلة حيث يصبح لزاما علينا ألا نأخذ الأمور على محمل شخصي في كل مرة، وهذا من شأنه أن يمدّنا بقوة في الشخصية ويجعلنا أقل حساسية تجاه سلوك غير مرغوب يتسم بنوع من العدوانية قد يصدر عن الآخرين، بقصد أو بغير قصد.
في علم النفس الحديث، يوصف الغضب على أنه إحساس أولي، طبيعي وناضج يمارسه الأفراد باعتباره شيئا ذا قيمة وظيفية من أجل البقاء على قيد الحياة؛ فالغضب يمكّن الإنسان من تعبئة موارده النفسية للقيام بأفعال تصحيحية لسلوك خاطئ وهو قد يحقق الانصاف من الشعور بالظلم.
في حين، حذّر العديد من الفلاسفة من نوبات الغضب غير المسيطر عليها وهو نوع من الخلاف بين الفريقين على القيمة الجوهرية للغضب، ومرة أخرى، يؤكد علماء النفس على أهمية الالتفات للآثار الضارّة المحتملة لقمع الغضب. أما أرسطو، فقد أكد على أنّ نقيض الغضب هو نوع من فقدان الشعور، في إشارة إلى أهمية التعبير عن الغضب، وهي من سمات الشخصية السوية وإلا فقد يوصف الإنسان بأنه عديم الإحساس.
وبهذا، فإن هناك اثنين من الاختلافات الرئيسية بين المفهوم الحديث والقديم للغضب، أحدهما يؤكد على أنّ الفلاسفة الأوائل لم يكونوا مهتمين بالآثار الجانبية لكبت الغضب، في الوقت الذي يحذّر فيه علماء النفس من التعامل باستخفاف مع الغاضبين، وهناك أيضا إشارة واضحة إلى مسألة الاختلافات بين الجنسين؛ فالمرأة من وجهة نظر علم النفس الأكثر غضبا، وهذا يتبع الطبيعة الحساسة لشخصيتها.