قرأتُ في كتاب يبحث في تاريخ مصر الفقرة التالية :
(لقد حمَّل الجنرال كليبر مصطفى البشتيلي المسؤوليةَ عن كل الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي لاخماد الثورة . الغريب أن المصريين اقتنعوا بهذا المنطق الشَّـاذ وقاموا بتجريس مصطفى البشتيلي...!) اهـ .
والتجريس عقوبة قديمة يتم فيها اجلاس الشخص المعاقب على الحمـار بالمقلوب ثم يطوف بالشوارع فيبصق الناس على وجهه ويصفعونه ويشتمونه.
قام المصريون بتجريس زعيمهم مصطفى البشتيلي وفي النهاية انهالواعليه ضربا بالنبابيت حتى قتلوه. ويقول محمد رشيد رضا معلِّقا على ذلك :
"الثائر لأجل مجتمع جاهل هو شخص أضرم النيران بجسده كي يضيء الطريق لشخص ضرير " !
فما هو التجريس؟ وهل له أصول جذورية ؟
كما تلاحظ عزيزي القارئ فالتجريس تفعيل من الجذر الثلاثي (ج ر س) .
أورد صاحب اللسان في مادة (ج ر س) نصّاً جميلا إليكموه :
قال جَنْدَلُ بنُ المُثَّنَّى الحارثي الطُّهَوِيُّ يخاطب امرأَته:
لقد خَشِيتُ أَن يَكُبَّ قابِرِي* ولم تُمارِسْكِ من الضَّرائرِ
شِنْظِيرَةٌ شائِلَةُ الجَمائِرِ، *حتى إِذا أَجْرَسَ كلُّ طائِــــرِ،
قامتْ تُعَنْظِي بكِ سِمْعَ الحـاضِـــــــــــــــــــــــــــــــرِ .
يقول: لقد خشيت أَن أَموت ولا أَرى لك ضَرَّةً سَلِطَةً تُعَنظِي بكِ وتُسْمِعُكِ المكروه عند إِجْراس الطائر، وذلك عند الصَّباح .
والجمائر: جمع جَمِيرة، وهي ضفيرة الشعر، وقيل: جَرَسَ الطائرُ وأَجْرَس صَوَّتَ.
ويقال: سمعت جَرْسَ الطيرإِذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأْكله.
وفي الحديث: فتسمعون صوتَ جَرْسِ طَيْرِ الجنة ؛ أَي صوتَ أَكلها. قال الأَصْمَعِيُّ: كنتُ في مجلس شُعْبَةَ قال : فتسمعون جَرْشَ طير الجنة ، بالشين، فقلت : جَرْسَ ، فنظر إِليَّ وقال: خذوها عنه فإِنه أَعلم بهذا منا؛ ومنه الحديث : فأَقبل القوم يَدِبُّونَ ويُخْفُونَ الجَرْسَ؛ أَي الصوت.
وفي حديث سعيد بن جبير، رضي اللَّه عنه، في صفة الصَّلْصالِ قال: أَرض خِصْبَةٌ جَرِسَةٌ ؛ الجَرْسة: التي تصوِّت إِذا حركت وقلبت . وأَجْرَسَ الحادي إِذا حدا للإِبــل؛ قال الراجز:
أَجْرِسْ لها يا ابنَ أَبي كِباشِ،*** فما لَها الليلةَ من إِنْفاشِ ،
غيرَ السُّرَى وسائِقٍ نَجَّاشِ ...
أَي احْدُ لها لتَسْمَعَ الحُداءَ فتَسِيرَ. قال الجوهري: ورواه ابن السكيت بالشين وأَلف الوصل، والرواة على خلافه.
وجَرَسْتُ وتَجَرَّسْتُ أَي تكلمت بشيء وتنغمت به.
وأَجْرَسَ الحَيُّ : سمعتُ جَرْسه.
وفي التهذيب: أَجْرَسَ الحيُّ إِذا سَمعت صوتَ جَرْسِ شيء.
وأَجرَسني السَّبُعُ : سمع جَرْسِي.
وجَرَسَ الكلامَ: تكلم به. وقال الفيروزابادي :
الجَرْسُ: الصَّوتُ، أو خَفِيُّهُ، ويكسر، أو إذا أُفْرِدَ، فُتِحَ، فقيلَ: ما سَمِعْتُ له جَرْساً، وإذا قالوا: ما سَمِعْتُ له حِسّاً ، ولا جِرْساً، كَسَروا.
واللحْسُ باللّسَانِ، يَجْرُسُ ويَجْرِسُ، والطائِفَةُ من الشيء ، والتَّكَلُّمُ ،
كالتَّجَرُّسِ ، وبالكسر: الأصْلُ ، وبالتحريكِ : الذي يُعَلَّقُ في عُنُقِ البَعِيــــــرِ، والذِي يُضْرَبُ به أيضاً . وأضاف :
والتَّجْرِيسُ: التحكيمُ ، والتَّجْرِبَةُ،
والتجريس بالقومِ : التَّسْمِيعُ بهم .
ومن هنا يبرز وجه الاشتقاق ، فالتجريس تحكيم والتحكيم يقتضي إصدار الحكم .
والحكم الصادر هنا هو عقوبة تعزيريّـــة ، يتم فيها اجلاس الشخص المعاقب على الحمار بالمقلوب ثم يطاف به في الشوارع فيبصق الناس على وجهه ويصفعونـــه ويشتمونه ويشهّرون به ! وهذا هو التسميع وذكر المثالب .
ولا تزال الصورة النمطية للتعزير(التجريس) ماثلةً في ذهني ، وأنا أراقب جماعـة الغجر وهم يجرّسون شيخهم ( شيخ النَّوَر ) فيُركبونه على أتانٍ هزيلة يطوفون به عليها في شوارع القرية التي انتهت فيها ولايته، وصار المشهد مضرب الأمثـال ، فيقولون عمن يُهان في آخر ولايته : مثل شيخ الغجــر .
وفي اللهجة الحورانية إذا أرادوا إظهار التذمّر من سلوك فردٍ ، فيقولون عنه : لقد جرَّسنا بسلوكه ، أو بأفعاله ، أي أزعجنا .