بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فكثيراً ما كان يأتيني بعضُ أصدقائي من الباحثينَ عن زوجةِ المستقبل، ويسألونني المساعدةَ في إيجاد شريكة حياةٍ مناسبة لهم، فأذكرُ جانباً من مواصفاتهم لزوجتي، فضلاً عن بعض مطالبهم في الطرف الآخر، ثم نقوم معاً بترشيح شخصية مناسبة لهذا الطالب، وأكثرُ من رشحتُهُنَّ كنَّ يتمتعن بمواصفاتٍ متميزة من الدين والجمال والنسب، إلا أنّ أكثر ما لاحظته -إلى حد يرقى لدرجة الظاهرة- أن الطالبَ حين يذهبُ لرؤية المخطوبة، وبعدَ أن أسألَهُ عن رأيِهِ فيها، كان يجيبُني ببرود: لم يحدث قَبُول!
وقد فهمتُ -لكثرة ما خضته من هذه التجارب- أن كلمة "القَبُول" تُستخدمُ لدى بعضهم استخداماً زئبقياً مطاطاً، وأنها تعني "الانبهار"!
فيظنُّ الخاطبُ أن القَبولَ يعني أن يفتحَ فمَهُ مذهولاً عند رؤية مخطوبتِه لأول وهلة، مأخوذاً بحسنِها الذي لا تخطئُه عين.
تحرير المصطلح
عندما ذهب الرجلُ يستشيرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عزمه في الزواج، بادره الرسول بقوله: "اذهبْ فانظر إليها"، وقد اشتطَّ الفهمُ ببعضِ الناس فظنُّوا أن هذا النصّ الشريف يُسوِّغُ لهم أن يقومَ كلُّ أحدٍ منهم بعملية (فرز) للبنات!
وهو سوقٌ للدليل في غير مساره، فإنما أرادَ الرسولُ منه النظر إلى فتاةٍ متعينة بالاسم والوصف، كان قد عزمَ على الزواج منها ولم يكن قد رآها بعد! وكل ما يعرفه عنها كان سماعياً لا غير.
فأين هذا من المقارناتِ التي يعقدُها شبابُنا المتدين في أيامنا هذه بين الفتيات، جاعلين الجمالَ الماديَّ أهم عوامل الترجيح؟!
وهل يستوي عندهم شاب ذهب لرؤية فتاة، فإن لم يرَ فيها شيئاً منفراً يصدُّه عنها، بادر بخطبتها، هل هو ومن يوغلُ ببصره فيرى هذه وتلك، ويدخلُ البيوتَ ليخرجَ منها، ثم يقرر الزواج استناداً واتكاء على عامل الجمال؟!
وإن لم يجد فيمن رآهن من تبهرُه وتذهلُه، راح يفتشُ عنها في كل فج عميق، تحت دعوى عريضة فارغة من كل مضمون، مفادها أنه ذهب لتحقيق الرؤية الشرعية غيرَ عابئ بأثر فعلِه على حالتها النفسية، وعلى حال أهلها، وهو في حقيقةِ أمرِه إنما يذبحُهَا بدمٍ بارد، ثم يبادرك بقوله: "لم يحدث قَبُول".
لا تحصنُني إلا وافرةُ الحظِّ من الجمال!
وقد شاعَ أن تسمعَ هذه الجملة تلاكُ في أفواه البعض، فيتعلل الشابُّ -استناداً لما يعمله من نفسه- أنه لو لم يتزوج فتاةً وافرةَ الحظ من الجمال المادي، فربما زاغَ بصرُه إلى غيرها! فلا يتحققُ له معنى الإحصان.
فهل يظنُّ ذلكَ المسكينُ أن زوجتَه مهما أوتيت من الجمال فلن يجد في غيرها ما ليس فيها؟
بل هل يضمنُ لنفسه أو يضمنُ له غيرُه أن يتزوج من حسناء لا يختلف اثنان على حسنها ثم لا يصادفُ خلال مشوار حياته واحدةً تفوقها في شيء أو في كل شيء فتقلب عليه حياته الهشة ودينه الأوهى من بيت العنكبوت؟
ثم منذ متى والجمالُ البراق للزوجة هو ما يحولُ بين صاحب الدين وبين النظر لحرمات الله؟ أيظنُّ أن الذين يغضُّونَ أبصارهم إنما يفعلون ذلك لجمال زوجاتهم؟ أم طمعاً فيما عند الله، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
أخشى أن ينغص عليّ ذلك العيب حياتي!
ومما لا ينقضي منه العجب، أن تسمع قول من يقول: أخشى لو كانت معيبة الجمال، أن يظل هذا العيب الذي قبلتها عليه ينغض عليَّ حياتي ويقض عليَّ مضجعي!
فهو يتصورُ أنه لو قبل زوجةً أقل بياضاً مما أراد! أو ليس قوامُها لوحةً فنيةً دقيقةً مثلما تمنى، أو عرفَ أن شعرَها ليس ذلك الأملس الطويل كيفما كان يروم، فلربما شعر بالندم والتسرع على اتخاذ خطوةٍ كان الأحرى به ألا يتخذها.
فهل يخالُ ذلك المسكين أنَّ زوجتَه مهما كانت جميلة فلن يشوب جمالُها شائبة؟ وهل يظنُّ أن ذلك النقص مسوغٌ كافٍ لأن ينظرَ لغيرها؟ أو لأن ينغِّصَ مثلُ ذلك عليه حياته؟ وهل الرجالُ الذين لا يشكون ما ينغِّصُ حياتهم مع زوجاتهم تزوجوا بنساءٍ فائقات الجمال؟ وليس في جمالهن نقص يذكر! أم هو الرضا والقناعة، والعشرة بالمعروف والحسنى؟
مصدر الرضا والقناعة
أيظن بعض الناس أن الرضا والقناعة يمتنع وجودهما إلا مع كثرة النعم وتنوع الماديات؟
ألا يفهمون أن القناعة والرضا برزق الله إنما ينبعان من داخل الإنسان، ومن أعماق نفس تتسامى فوق الأشياء، وتستعذب العذاب حباً في الله، وليس لكثرة ما آتاها، ولا لعظيم ما رفلت فيه من النعيم، فلو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له واديان، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وكم من رجلٍ رُزِقَ بأجمل النساء، ثم إذا به يمدُّ بصرَه نحو من تفوقُها زوجتُه جَمالاً وحسباً، وكم من رجلٍ تزوجَ امرأةً متواضعةَ الجمال، فكان بها ومعها أسعد الناس وأهنأهم.
ولو أنَّ الإنسانَ يرضى ويقنعُ لكثرة ما يأتيه، لما رضيَ من بني آدم أحد، ولو كان المرءُ لا ترضيه إلا زوجةٌ فائقة الجمال، فإني أقسم أن مثل هذا لن يرضى أبداً.. ولن يملأ جوفه إلا التراب.
تذهبُ لرؤيتها وصورة أخرى في مخيلتك!
ومصدرُ ذلك البلاء المستشري أنَّ الشابَّ يحملُ في عقله اللاواعي -ولربما الواعي!- صورةً مكتملةً لحسناءَ قد دغدغت بحسنِها خيالَه، فجعلَ منها ميزاناً يزنُ عليه الأخريات، ومرجعاً يقيس عليه كل من يراهن، فهذه تحقق ثمانين بالمائة، وأخرى لا تكاد تصل للنصف، وثالثة تقترب من التسعين، وهكذا.. فتظل عمليةُ الفرزِ جارية حتى يحقق بغيته!
فإن لم يجدها قال: ابحثوا لي عن تلك التي في رأسي! ولعله يكون قد شاهدها في إعلان تليفزيوني أو فيلم سينمائي، ربما غضَّ بصرَهُ وقتها عنها، لكنها لمَّا تفارقْ عقلَهُ بعد!
أو لعله قد استرق النظر مرةً في الشارع أو في المواصلات أو في كذا وكذا، فتمنى أن يتزوج بفتاةٍ تجمعُ له الحسنيين، التزام صاحبة الدين والخلق، مع جمال وجاذبية وأناقة الأخرى!
ولو قال قائل: أريدُ شراءَ سيارةٍ تجمعُ من كل بستان زهرة، بحيث تكونُ بقوة محرك المرسيدس، وانسيابية الهوندا، وفخامة الجاجوار، وسعر اللادا، لكان كلامُه مما تضحكُ منه الثكلى! ولأجمعَ العقلاءُ على سخافة مطلبه!
فكيف يطلبُه في إنسان؟
ما تسميه رؤية، ليس أكثر من نظر لمجرد وجه، بل لوجه مجرد!
أليس من السخافة أن تذكرَ عدم وقوع القَبول الشكلي، وأنت لم ترَ منها سوى وجهها وكفيها؟
بل الأسخفُ أن تذكرَ أنَّ القَبول منك إنما وقع لوقوع عينيك على وجهها، فماذا تفعلُ لو تزوجتها، ثم بعد أن انكشف لك جسدها رأيت فيه ما لا يروقك؟ أتراك تعيدُها لأهلها؟
أم تظنُّ أنَّ جمالَ المرأةِ أو قبحَها محلُّه الوجه؟ وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نظر لوجهها سرته"، أم قال "إليها"، فلربما كانت عادية الوجه، لكنها بارعةٌ في فنون التجمل، ولربما كان جمالها كله محدوداً ضئيلاً، لكنها تتمتعُ بجاذبية روح وخفة ظل تجعلُها أنيسة وحدة، ورفيقة حياة.
ألا تعلم أنه يزول؟
ثم ماذا لو أنك حصلت على تلك الجميلة الصافية الرائقة الحسن، ثم تغير جسدُها بعد الحمل والولادة، أو أصابها حادث، أو أصيبت بداءٍ أطفأ بريقها، بل ماذا تفعلُ هيَ إن أصابَكَ أنتَ شيء من ذلك بعد زواجكما؟ كحادثٍ أقعدك أو مرضٍ أصابك أو تجارة انهارت؟ أو مصيبةٍ من مصائب الدنيا مما يبتلى به المؤمن في صحته أو ماله أو نفسه.
أتراها تتخلى هي عنك لذات ما تتعللُ أنت أنه لو وجد فيها لكان سبباً لإدبارك عنها؟
أنكون عوناً للشيطان عليهن؟!
ماذا ستفعلُ -بربِّك- الفتاةُ التي رزقَها اللهُ جمالاً مادياً يمتنعُ أن تراهُ عين الخاطب من مثل جمال القوام، أو البراعة في فنون وأدوات التجميل، لكنها لم ترزق بذات النصيب من الجمال في وجهها؟ هل يفترضُ بها أن تعلنَ عن نفسها وأن تكشف عن جسدها بالملابس الكاشفة؟ حتى تلفتَ أنظار "المتدينين"! الذين يرونها فيشيحونُ بوجوههم عنها!
أولا تدركُ أنَّ تلك القطعة الضئيلة التي تراها منها لا تعبرُ إلا عن أقل من عشرة بالمائة من جمالها المادي!
هل تقبلُ أن تكون عوناً للشيطان عليها؟
هل تتصورُ مجردَ أن تحدثَ هي نفسَها بأنها لو كانت تظهرُ ما خفي عنك أيها الزاهد فيها، والمدبر عنها كما تفعل الأخريات، لكنتَ أنتَ أولَ الطالبين لها.. وعلى رأس المسارعينَ إليها؟
وماذا عن الأخرى؟
ثم ماذا ستفعلُ الفتاةُ المسلمة التي لم يرزقها اللهُ تعالى نصيباً وافراً من الجمال المادي؟ هل كتبَ عليها ألا تتزوج لأن الشباب لا يرضون سوى بالفاتنة، بل كثيراً ما يتركُ بعضُهم -إلا من رحم الله- صاحبة الدين، ويلهثُ خلف فتاةٍ أعجبه حسنها، ثم يتبجح بقوله: سوف أساعدها على التدين والالتزام.
ولربما قال القائل: وما ذنبي أنا أن أرضى بقليلة الجمال، وقائل هذا القول يجهل أنه ما من امرأة إلا وفيها من الجمال والجاذبية ما فيها، وهل رأى أحدُهم إحدى (نجمات السينما!) لحظة استيقاظها من نومها؟! أو حين يصيبها مرض؟!
كيف ساغ له أن يحكم على فتاةٍ تسترُ عنه أكثر مما تبدي؟
هل تؤمن حقاً بحور العين؟
إذا كان هؤلاء الشباب من أدعياء التدين يؤمنون حقاً بالجنة وبما أعده الله فيها للمتقين، ويعرفون أن جمال نساء الدنيا في الدنيا لن يبلغ عشر معشار جمالهن في الجنة، فلماذا يستمسكُ هؤلاء بالذي يفني وهو خزف، ولا يتعلقون بالذي يبقى وهو ذهب؟!
أتظن يا أخي أنك إن تزوجت بفتاةٍ متواضعة الجمال فذاك نهاية المطاف؟؟ أولا تدري أن تلك الزوجةَ المسلمة ستكونُ أجمل الحور إذا كانت رفيقتك في الجنة؟!
قال أحدُ الفضلاء وهو يتحدث عن فتاة أحلامه: أريدُها صاحبةَ دين، فلما سئل: وما تشترطُهُ في جمالها؟ قال: دينُها سوف يوصلني إلى حور العين في الجنة.
عدد عيوبك!
وأخيراً وليس آخراً.. فأنت أيها الشاب المتدين الذي يبحث عن عروس، لو وُجِدَ فيها كلُّ ذلك الذي تتصور اجتماعه وتركيبه في فتاةٍ واحدةٍ، لبايعناها لإمامة المسلمين!
فهلا عددت عيوبك ووجوه نقصك؟
أسألُك اللهَ أن تفعل.