في أعالي مرتفعات "عكّار" شمال لبنان، و تحديدا في منطقة "الشمبوق" التي تبعد على الحدود السورية كيلومترات قليلة، يعيش المزارع الستيني "هيكل" في هذا المكان التي تتجاذب فيه الحدود الجغراسياسيّة والطائفيّة والطبقات الاجتماعيّة.
اختار هيكل أن يقاوم بفعل البناء الذي أسس منه مزرعة ومطعما وبيتا بيديه اللتين لا تملان العمل من أجل البقاء.
"ميّل يا غزيّل" فيلم روائي طويل للمخرجة اللبنانية "إليان الراهب"، ولقد تم اختياره في العروض الرسمية لأيام قرطاج السينمائية ضمن الأفلام الوثائقية الطويلة خارج المسابقة الرسمية.
اتخذت "الراهب" من شخصية "هيكل" عمودا فقريا لمحاكاة الأرض والوطن والشخوص في تفاعلاتها معه وصدى الطبيعة في ذاته بمختلف تناقضاتها وأجوائها... فوجدناه هذا الستيني الذي عايش الحرب الأهلية اللبنانية، ووجدناه الإنسان المشحون بذكريات درامية بهجر زوجته له ومعها أولاده الأربعة في غفلة منه.. ووجدناه الشخصية المشحونة في علاقتها بالأرض وأهالي "الشمبوق".
كل هذه الفترات المتنوعة التي عايشها "هيكل" والتي مازال يعيشها لم تمنع شخصيتنا الرئيسية من فعل البناء والزرع والاهتمام بالأرض وكأنه استمد منها جذور الفعل والأمل دون ملل.
هذا ما أكدته "الراهب" في حديث لوكالة أخبار المرأة قائلة: "إن فيلم "ميل يا غزيل" أتى بعد فيلم "ليال بلا نوم" وهو فيلم مركب قصته أن شخصية الفيلم شاركت في الحرب بطريقة منهجية وكان وراء قصف وتدمير العديد من العائلات. بعد هذا الفيلم أحسست أن لبنان مقبرة جماعية، حاولت أن أجد معنى إيجابيا، أن أجد بابا مفتوحا للأمل للعيش في هذه الأرض... أمل جديد يربطني بلبنان، وهذا ما وجدته في "هيكل" الشخصية الرئيسية في فيلم "ميل يا غزيل". وجدت إنسانا يقاوم من أجل البقاء في لبنان، وجدت شخصية تعيش ببساطة يزرع ويأكل ما ينتجه ويربي الماشية ويعمّر بيتا وأرضا وهذه أهم نقطة في منطقة "الشمبوق" هذه المنطقة النائية المعقدة التي يهجرها الناس وهو الوحيد الذي يدافع للبقاء فيه".
دفاع استنطقته "الراهب" من شخصيتنا عن طريق أسئلتها التي وجهتها إلى "هيكل" منذ بداية الفيلم وكأنها دعوة ضمنية للمشاهد إلى الغوص معها في أعماقه الخفية، للحصول على سمفونية متكاملة الفصول لشخصيتنا.
أما الكاميرا فوجدناها تتجول في البيت والمزرعة والمطعم و تلقي بنفسها تارة في أحضان الطبيعة بصيفها وشتائها وربيعها وخريفها، وتنهال من حركية الفعل الإنساني لهيكل في علاقته بأهالي البلدة والأرض والبناء وكل التجاذبات المحيطة به.
مراوحة جعلتنا نتعايش مع رومانسية المشهد الطبيعي وميلودراما الفعل الإنساني في تعبيراته الصامتة الصاخبة من خلال"هيكل".
تشير "الراهب" أن "من التجاذبات التي كانت تحيط بشخصيتنا الرئيسية هي الطائفية التي كانت متواجدة في منطقة الشمبوق "مسيح سنة"، و صراحة صعب التعايش في لبنان في هذا الفلكلور الطائفي، لكن " هيكل " علّمنا معنى التعايش من خلال علاقته ب"رويدا" وهي الفتاة التي تعمل معه وهي تتعايش معه دون تنظير فعلاقتها به علاقة أبويّة وهذا بالنسبة اليا كان أمل فعلا لهذا التعايش المشترك.
هيكل الذي يدعو بطريقة غير مباشرة إلى السلام والعيش المشترك عايش الحرب الأهلية ووصفها "بلا طعمة" وعندما سألته "الراهب"مخلصين الحرب"؟ أجابها "لسا مطولين".
نجحت الراهب في تصوير بطل فيلمها في كل الظروف وبدا مقبلا على الحياة رغم قصته الدرامية ورغم كل التشنجات وقساوة الحياة حيث هو، و كأن حضور الأغنية الشعبيّة "ميل يا غزيل" لنجاح سلام ، التي كانت تخترق هدوء المكان، والتي كان يسمعها من حين لأخر في مطعمه كانت لكسر روتين المعاني الثقيلة والإيحائية التي يتعايش معها في منطقة الشمبوق والتي تتجاوز هذا الفضاء الضيق ليحكي الوطن بكله لبنان.
اختارت الراهب العنوان " ميل يا غزيل" بعد أن سمعتها خلال وجود مجموعة على الغذاء في مطعم هيكل. وقالت: فعلا من سيمر على هيكل في تلك المنطقة النائية؟ هيكل في انتظار دائم لأي قادم كي لا يشعر بأنه متروك وحيداً. الأغنية تعبر عن رغبة هيكل، وفي مطارح أخرى تعبر بخفة عن موقف عميق".