يعتبر التحرش اللفظي ظاهرة تنتشر في معظم المدن السورية، ولا تخلو منها معظم الدول العربية والأجنبية وإن بنسب متفاوتة، ترتفع حرارتها مع سن البلوغ عند الشباب أينما وجدوا، والضحايا دوماً شابات يافعات، وإن كانت نساء تجاوزن العقد الرابع يتعرضن أحياناً لمثل هذا التحرش من عابر سبيل مضطرب نفسياً كبيراً أم صغيراً في السن.
يمكننا زمنياً أن نحدد بدء انتشار ظاهرة التحرش في سوريا في الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم أو قبلها بقليل. أي مع بدء خروج المرأة من بيتها سافرة بعد تخلي الكثير من النساء عن حجابهن التقليدي. ترافق ذلك مع مناخ عام منح بعض الحريات الاجتماعية للمرأة والسماح بخروجها للجامعات والحدائق والنوادي والمطاعم ودور السينما والأسواق. وتحكي أمهات أنهن كن يواجهن في الشوارع بتجمعات ذكورية لا تتحمل أعصابهم رؤية نساء صففن شعورهن بتسريحات وألوان مثيرة، يتمخترن بدلال وتظهر بعض مفاتنهن ولو بشكل خفيف قياساً للنسب في تلك الأيام، وأن التحرش بهن كان يدوياً كالقرص السريع والهروب، أو التحرش اللفظي البذيء والخادش للحياء. وأن سلاحهن، في رأيهن، كان دوماً(الكندرة) التي يتلقاها المتحرش على رأسه، فيسرع للهرب بها انتقاماً أو للتفاخر أمام أقرانه، وكثيراً ما عادت أمهاتنا إلى بيوتهن باكيات بفردة حذاء وحيدة.
مع مرور الزمن وخروج المرأة السورية للعمل والدراسة بشكل أكبر، ازدادت ظاهرة التحرش في كل مكان وجدت فيه أنثى. وإن كان الحد من أشكال التحرش يمكن ضبطها في أماكن العمل، يبدو من الصعب الحد منها في الهواء الطلق، حيث المتحرش(يدوياً) يختار بتخطيط مسبق زوايا يسهل منها أداء مهمته والهروب السريع مثل الأسواق النسائية حيث يندس المتحرش عادة بين الازدحام، يؤدي مهمته ويطلق ساقيه للريح. لكن إن تصادف ووقع بين الأيادي النسائية، سينهلن بدورهن عليه بالأحذية كسلاح فعال ودائم للأمهات والحفيدات في كل مكان وزمان. وإلى سنوات غير بعيدة، كنت تشاهد في الأسواق السورية دوريات تابعة لشرطة الآداب يتجول أربع من أفرادها لالتقاط اللصوص أو المتحرشين. إلا أن هذه الدوريات اختفت، وما بقي منها اقتصر دوره على الركون في سيارة قريبة لمراقبة الأسواق من الناحية التموينية لا أكثر، وتذكر فتيات أنهن كن يتعرضن لتحرش لفظي (غير مؤذ) من أفراد الدوريات أنفسهم.
وإلى يوم قريب، لو فكرت أن تقوم بجولة وقت الظهيرة للمناطق التي تقع فيها مدارس البنات، ستعثر على تجمعات صغيرة لشبان فتية جاؤوا إما من مدارسهم القريبة، أو من العاطلين عن الدراسة والعمل، ينتظرون طرائدهم من التلميذات الجميلات لإسماعهن فنون(التلطيش) الذي يندرج تحت مفهوم التحرش اللفظي، وإن كان يعتبر الصيغة الألطف التي تتقبلها معظم البنات، على اعتبار أن هذا(التلطيش) أو هذه (الحركشة) كما يسميها العامة في سوريا، لا يتجاوز التعبير عن الإعجاب الشكلي بالفتاة، ويتمتع في كثير من الأحيان بحس الفكاهة مثل( يسلملي هالكسم متل دفتر الرسم) و(يقبرني القميص والبنطلون ممكن رقم التلفون) أو يلحق المتحرشون بالفتيات ويقول أحدهم مثلا( أحلى وحدة فيكم اللي لابسة كنزة بيضا)، وسرعان ما تنظر الفتيات إلى ملابسهن ويكتشفن أن أي منهن لا ترتدي كنزة بيضاء، ليضحكن بعد أن أوقع بهن المتحرش خفيف الظل.
هذه التحرشات اللفظية الخفيفة هي السائدة بشكل عام في المجتمع السوري بين السبعينيات حتى اليوم. وهي تحرشات تصنف بالبريئة بين الجنسين، تفرغ شحنة لدى الذكور تشعرهم بذواتهم وصحة مشاعرهم اتجاه الجنس الآخر، في الوقت عينه لا تضايق الفتيات لأنها تشعرهن بجاذبيتهن ولا تؤذي السمع والأخلاق، وإن كانت مرفوضة كلياً من الأهالي والأخوة الذكور، بشكل خاص الذين كثيراً ما يستنفر واحدهم ليراقب مدرسة شقيقته ويتصادم مع المتحرشين، وفي بعض الأحيان قد يؤدي الأمر إلى حرمان البنت من الاستمرار في دراستها والإسراع في تزويجها بسبب مخاطر الشارع الكثيرة.
رسمياً يعاقب قانون العقوبات السوري بحسب (المادة 506)المتحرش يدوياً بأكثر من خمسة عشر سنة سجنا، والمتحرش لفظياً بكلام مخل بالحشمة بالسجن بين يوم وعشرة أيام وغرامة مالية. لكن الحالات التي سجلت في هذا الإطار قليلة، وبخاصة التحرش اللفظي في الشارع الذي يصعب إثباته، وإن ثبت غالباً ما يقف المجتمع الذي لازال محافظاً رغم خديعة الانفتاح الشكلي ضد الفتاة (الضحية) ويحملها وزر ما حصل لها بسبب ملابسها حتى ولو كانت محجبة، حيث تتعرض المحجبات لما تتعرض له السافرات بنفس السوية.
وفي ظل الأحداث الدموية التي تعيشها سورية منذ ثلاث سنوات، من الصعب التحدث عن تحرش لفظي خفيف الظل كما كان دوماً، فالشبان باتوا يخشون التجمعات التي قد تخضع للمساءلة الأمنية ومخاطرها، ناهيك عن أن الهجرة أو النزوح أخرجا الآلاف من الشبان من الجنسين من بيوتهم ومدنهم، إضافة إلى المزاج العام المكتئب، حيث لا يبتغي الفرد إلا السرعة في الانتهاء من عمله أو دراسته أو تسوقه والوصول إلى بيته آمناً من قذيفة عشوائية أو أي من مخاطر الطريق الكثيرة . دون أن يفوتنا أن الاحتكاك الشبابي بين الجنسين في بداية الحراك الثوري والتظاهرات السلمية في الشارع أفرزت نوعاً جديداً من التحرش اللفظي من مثل (تسلملي هالريحة..أنت مندسة ولاشبيحة) حيث المندسة معارضة والشبيحة موالية، أو(يسلملي هالجسم المكسّم.. أنت حقيقة ولا مجسّم؟) في كناية لما روجته وسائل إعلام موالية متهمة المتظاهرين بأنهم مجسمات مصنوعة في قطر!!