حين تتحوّل الانتهاكات الحقوقية في بلد كتونس (أسقط شعبه الديكتاتور) إلى ممارسات متكرّرة، وحين يقترن الإرهاب بروّاد المساجد والملتحين والمنقّبات، وحين يصبح المستهدف من قانون الإرهاب أصحاب الثورة وحماتها بتهمة حرق مقرّات التجمّع المنحلّ ومراكز البوليس، وحين تُحاكم سواعد الثورة بتهمة التطاول على رموز العهد البائد... فاعلم أنّنا أمام سياسة ذات طابع استراتيجي. فالاعتداءات المتكرّرة على المنقّبات، وسلسلة المنع الذي يتعرّض لها الشباب السلفي، والتشويه الممنهج الذي يتعرّض له أبناء التيّار الإسلامي عامة وشباب الثورة خاصة، يجعل هذه "العمليات" في منزلة واحدة مؤلّفة من سلسلة متناسقة، هدفها الرئيسي القضاء على النفس الثوري داخل مؤسّسات المجتمع، بإرباك قوى الثورة الهشّة وتحويل وجهتها عن المطالب الرئيسية لثورة (17- 14). سياسة التخويف والترويع وتقليم الأظافر، التي كانت تمارس في عهد المخلوع في شكل عنف مادي ملموس يطال الأجساد والنفوس، اليوم تحوّل إلى عنف رمزي، عنف مخفي وناعم يمارس بآلية الخطاب والصورة ويستهدف العقول البسيطة والساذجة.
العنف الرمزي تمارسه نفس الجهات المهيمنة أمنيا، وثقافيا، واجتماعيا، البوليس بمختلف تصنيفاته القديمة وتفرّعاته الجديدة، والإعلام بخطّه النوفمبري المضاد للثورة، والنخب السياسية المتعالية التي تعوّدت على ابتزاز العامة ومخاطبتها من وراء حجاب الانتهازية. حملة يدشّنها الإعلام التونسي ضدّ ما يسمّونه بـــ"الإرهاب"، وإصرار ممنهج ومنسّق على ربطه بـــ"المتدينين" وخاصة بالمساجد والروضات والمدارس القرآنية، صورة مصمّمة بإتقان فاضح، تقدّمها القنوات التلفزية والإذاعية للمواطن البسيط ضدّ "الإرهابي السلفي الملتحي"، الذي يذبح أبناء جلدته بوحشية مكبّرا أربع مرّات رافعا شارات النصر، في شهر رمضان المفضّل، ثمّ يقدّمون التهاني ويتبادلون القبل أثناء صلاة التراويح !!! إلى جانب مشهد دماء الأمنيين على قارعة الطريق، تحوّلت هذه الصورة المروّجة إعلاميا إلى عقيدة جماعية، خاصة حين يصاحبها خطاب مؤجّج للعواطف ومبتزّ للمشاعر. حيث أصبحت أي محاولة للتشكيك أو التخفيف عبارة على تضليل وخداع وسلوك لا وطني. الإعلام هو أحد حلقات سلسلة معقّدة تدار بكفاءة وتنسيق كبيرين. وهي الحلقة الأولى في مسلسل الدراما التونسية، من أجل اكتساب الشرعية الشعبية لممارسة الإقصاء والمنع، تحت عنوان مقاومة الإرهاب، الذبح حلال لهؤلاء الإرهابيين المعادين للوطن وللشعب.
العقول التي تقوم بالإشراف المباشر على تنزيل هذه السياسات الإستراتيجية، والتي وقع رسمها تخطيطها في إطار رؤية شاملة لصناعة الإرهاب وترويجه من اجل السيطرة على شعوب "العالم الثالث" التي تجرّأت وتمرّدت بدون إذن، هذه الشعوب التي خرجت على السياق المرسوم من طرف قوى النظام العالمي الجديد بحاجة إلى تأديب وعقاب، الإرهاب والتقتيل هو العقاب الأمثل والأجدى.
الفكرة المفتاح، بالنسبة لهذه العقول المفكّرة والصانعة للسياسيات، تلك القائلة إنّ نقطة الضعف المركزية لدى الرجل العربي المسلم هي "المرأة". جسد المرأة ارتبط ب"الجنس" و"الشرف" و"العار"، وأي انتهاك لحرمة جسد المرأة بالتعرية أو الاغتصاب سيُنتج ردود أفعال قوية وعنيفة. ولهذا نرى أنّ العقول المدبّرة تعمل على توظيف هذه الفكرة، بسياقات مختلفة، من اجل الإيقاع بالمتديّنين السلفيين والأصوليين في شباك "الإرهاب". في العراق استعملت ورقة "الاغتصاب" في سجن أبو غريب، في مصر ورقة القتل والاعتقال لنساء رابعة والنهضة، في تونس حيث لا يمكن استعمال الاغتصاب المادي، وفشل سيناريو الانقلاب والاعتقال والقتل، بقيت ورقة المنع وانتهاك حرية اللباس وفرض كشف الوجوه بالقانون، وما يمكن ان تصطحبها من تجاوزات بسبب عدم الإنظباط للتعليمات من طرف بعض الأمنيين.
فتعرّض نساءهم (رجال التيار السلفي) للانتهاكات والمضايقات، والقصص المشينة التي يقع عرضها في وسائل الإعلام حول تعنيف المنقّبات ومحاولة اغتصابهنّ من طرف رجال الأمن، وشحن العقول البسيطة من طرف بعض المرتزقة من المشايخ بإصدار فتاوى وجوب الجهاد ضدّ السلطان الجائر (لأنه حقيقة انتهك حقوقهم وحرماتهم، وجار عليهم) تجعل هؤلاء الرجال يشعرون بالتضامن مع ضحايا انتهاكات المنع وكشف الوجوه، ويتحمّلون المسؤولية الأخلاقية والشرعية على إنزال القصاص وإحقاق الحقّ، إذ يعتبرون أنفسهم مكلّفون بأداء الرسالة. وهكذا يقع استدراجهم نحو مربّعات الثأر والانتقام وممارسة ما يسمّى بــ"الإرهاب". هذا ما وقع فعلا بسبب قتل إحدى النساء بحي التضامن أثناء مواجهات بين قوات الأمن وأنصار الشريعة.
لا أحد ينكر أنّ الإرهاب ظاهرة سياسية لا يمكن تجاهلها، ولا أحد يشكّك في كونها تمثّل خطرا محدقا بمجتمعاتنا الهشّة، خاصة حين لا يحسن الساسة التعاطي معها، ويستعملونها كورقة للتجاذب والمزايدة. علينا أولا أن نحدّد مكوّنات "الإرهاب" حتى لا نسقط في فخّ من يشرف على صناعة هذا المنتوج.. ويهندس لشبكات ترويجه !!!
الإرهاب والتهريب، وجهان لعملة واحدة، كلاهما يصنع الموت، سواء عبر تهريب الأسلحة والمخدرات والممنوعات، أو استعمالها في التقتيل والتفجير والتفجير. مقاومة الإرهاب يكون أولا وقبل كلّ شيء بمحاربة شبكات التهريب والضرب بقوة على الأيادي العابثة بأرواح وعقول الأجيال القادمة. الإعلام يُطنب في الحديث على الإرهابيين الملتحين والمنقّبين، لكن لا يتحدّث على أطنان المخدّرات التي تباع على قارعة الطريق (42 كيلو في كتانة)، والمروّجين الذين يقع القبض عليهم متلبّسين (إدمان وترويج شبكة وقع القبض على أعضاؤها في بنقردان) وفجأة يقع إطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية ضخمة، لا يعلم إلاّ الله من يقوم بدفعها رشوة للمحامين والقضاة. الإعلام و"النخب" تتحدّث عن السلفيين وعن شباب الثورة الذين يقع تسريحهم عن طريق العفو الرئاسي، وعن رابطات حماية الثورة والخطورة التي تمثّلها على المجتمع، وتعمل جاهدة على ربط ذلك بظاهرة تفشّي الإرهاب، من أجل تبييض وجوه أخرى أكثر سوادا وقتامة. الإرهاب يموّله التهريب، ومحاربة التهريب يهمّشه التركيز على الإرهاب. كلاهما ظاهرتان تمثّلان خطورة كبرى على مستقبل تونس ومصير التحوّل والانتقال الديمقراطي. فلا تُلْبسوا الحق بالباطل ولا تستوهموا الحقيقة وتتوهّموا الضلال. الإرهاب السلفي هو فقط غطاء لإرهاب النظام العالمي الجديد الرأسمالية المتوحّشة، والليبرالية المُعولمة.